"من القاهرة".. تحية سينمائية لإمكانية سرد شجاع

05 يناير 2023
من الفيلم
+ الخط -

يقوم فيلم "من القاهرة" (2021) على فكرة التصالح مع الخوف. هكذا تقول إحدى شخصياته وهي أيضاً مخرجة الفيلم هالة جلال. لكن الخوف الذي تفيد بأنه "أسوأ دوافع الاختيار" إذا ما فكّكته إلى مخاوف ستكون أمام إنسان يخشى من انكشافه، من أشعة إكس التي تفضحه، ويريد أن يمشي ما دام سليماً من الكساح حتى الآن، وقادراً على اختيار الطريق.

لدينا في الفيلم شخصيتان، الأكبر سناً هبة خليفة الفنانة التشكيلية التي تعلمت التصوير الفوتوغرافي، وآية يوسف المصوّرة والمونتيرة، وتعمل على إخراج أول فيلم وثائقي طويل.

كلاهما، مع غيرهما من النساء بحضور أقل، لديهما حس مشترك بالاعتراف بجملة من المخاوف، ثم تختاران مساحة التعبير عن الذات، استناداً إلى المقطع الشعري لفؤاد حداد الذي يفتتح الفيلم "لا أنا منهزم ولا منتصر، ولا مستريح، وفي كل خطوة أنا بنكسر، وارجع صحيح".

الخوف "أسوأ دوافع الاختيار" كما تقول مخرجته وإحدى شخصياته

لم تلجأ نساء الفيلم إلى رباعية صلاح جاهين "وحيد لكن بين ضلوعي زحام، خايف ولكن خوفي مني أنا، أخرس ولكن قلبي مليان كلام"، لأن المخرجة أرادت من فيلمها أن يكون سهلاً "من القاهرة" دون أن يكون المرء أخرس ودون أن يرتفع الصوت إلى درجة الهتاف.


صنع في البيت

تبدو هبة خليفة الأكثر شجاعةً ومغامرةً، وهي من ألهمت المخرجة هالة جلال التي شاهدت معرضها "صنع في البيت"، كما أوضحت في دردشة أعقبت عرض فيلمها بمهرجان كرامة الأخير في العاصمة الأردنية عمّان وقد نال تنويهاً خاصاً من جائزة "أنهار".

تزوجت هبة وأنجبت ابنتها "ورد" وتطلّقت من زوجها، وانخرطت في مشروع تشكيلي فوتوغرافي. تسرد هذا بسرعة وحيوية متدفقة كما لو أنه وقع كله في زمن موازٍ لا يتحكم بساعتها البيولوجية المحمومة.

من القاهرة 2 - القسم الثقاقي
(من الفيلم)

إن مجرد إنجاب امرأة مولودها الأول بعد عناء، يمكن تكثيفه وجعله مأساة عميقة، بيد أن المجابهة كانت بالبوح وبكاميرا أصدقاء، قررت فيها المخرجة أن تعايش مشاريع النساء، بما فيها من كدمات الحياة، دون ولولة، إنما بتدوير زواياها الحادة حتى لتبدو إصابات عمل سطحية.


جسد معاقب

تدخل المرأة في لقطة فوتوغرافية وتركز المصورة هبة على الساقين المشكوكتين بالدبابيس. هذا جسد محاط بالشوك. إنه ليس ملكاً لذاته، بل إن المجتمع هو الذي يحدده ويعاقب إن لزم الأمر. أما أوسع اشتغالات هبة خليفة فكانت مع قماشة الليكرا الصناعية المطاطة التي ترتديها النساء ليبدو الجسد مفصلاً بما فيه من "عيوب" وطبقات لحم تجعل الجسد خجولاً من وجوده، تحت ضغط الشعور بفقر الأنوثة وتقدير الذات.

نجحت هبة في تجربتها "صنع في البيت" وعرضتها في بيروت، وبعد انتهاء الفيلم ذهبت بها إلى اليابان.

أما آية، فلديها فيلم داخل الفيلم، وهو كما أخبرتنا هالة جلال انتهى العمل عليه الآن، ولدينا بعض الحكاية، إذ تقدم لنا آية شخصية "إسراء" بنظارتها السوداء طوال الوقت، ولقطات لا تركز على تفاصيل الوجه الذي تعرضت صاحبته لدلق ماء النار من زوجها السابق.


إمكانيات السرد

إسراء مستقرة نفسياً وتقدم معونات لأخريات في أوضاع صعبة. هذا المنحى من المؤازرة والشعور الطبيعي بالكرامة يترسخ أكثر دون ضغط من المخرجة، حتى وهي تخطط لبناء عمارة الفيلم وفق ما ترغب وترتئي. ما وقع هو حياة تلقائية أعجبت بها، ووجدت بدءاً من هبة المتدفقة من تفتح باباً أوسع من الشباك الذي اكتفت به هالة جلال معترفة بأن هذا أقصى ما لديها من إمكانية للسرد الشجاع.

هالة جلال - القسم الثقافي
المخرجة هالة جلال

آية، وهي من تولّت مونتاج فيلم "من القاهرة"، شابة، سيضاف في نهايته قرارها خلع الحجاب. بيد أننا عرفناها في بداية الفيلم محجبة وتمارس رياضة التزلج بالعجلات "رولر ديربي"، وكان هذا النشاط بما فيه من "عنف" وحوادث اصطدام محتملة مجال وعي الشابة بجسدها، ولم يكن الحجاب موضوع الفيلم مطلقاً، بل جاء في الخواتيم عقب سفرها وظهورها في مكالمة فيديو مترددة وماضية في قرارها.


موسيقى رومانسية

أحيط الفيلم بموسيقى رومانسية غلبت عليها المقدمات الموسيقية لمحمد عبد الوهاب، مثل "على بالي يا ناسيني" و"أهواك واتمنى لو أنساك" و"أنا والعذاب وهواك" و"كان أجمل يوم يوم ما شكالي"، وهي اختيارات خدمت تصور المخرجة في جعل السرد يفصح عن نفسه "كما يتحدث ناي إلى وتر خائف الكمان".

لم تكن النساء ضحايا شعور بالغضب أو تحت وطأة الشفقة والندم، بل نماذج تقول هالة جلال إن كل واحدة منهن "صوتها من دماغها" خائفة، ومع ذلك تأخذ نفساً عميقاً وتكمل مشوار حياتها.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون