- حرب البوسنة شهدت تأخر تدخل الأمم المتحدة ومقتل أكثر من 8000 بشناق في سربرنيتسا 1995، مما أسرع في اتفاق دايتون لوقف الحرب وأدى لمحاسبة المسؤولين عن الإبادة.
- الخلافات حول مشروع القرار تجددت بسبب العدوان على غزة والنقاشات حول إبادة جماعية، مما أدى إلى توترات دولية وتعقيدات في السياسة الدولية تؤثر على العلاقات بين الدول وتحديات تحقيق العدالة والسلام.
في النصف الثاني من الشهر الماضي، احتدم فجأةً نقاشٌ حول توصيف ما حدث في بلدة سربرنيتسا البوسنية عام 1995، بالتزامُن مع تقديم مشروع قرار إلى الجمعية العامّة للأمم المتّحدة لاعتماد 11 تمّوز/ يوليو يوماً عالمياً لاستذكار الإبادة الجماعية التي تعرّض لها البشناق (البوسنيون المسلمون)؛ وهو المشروع الذي كان يفترض أن يُصوَّت عليه في الثاني من أيار/ مايو الجاري، ولكن يبدو أنّ الخلافات بين البلدان المعنية بالتصويت والبلدان المتحفّظة على ذلك أبرزت توتُّرات جديدة بسبب الخشية من أن يشمل ذلك ما يحدث في أوكرانيا وغزّة أيضاً.
تاريخ من الإنكار
خلال حرب البوسنة بين سنتَي 1992 و1995، تدخّلت الأمم المتّحدة في وقت متأخّر، وأعلنت عدّة مناطق آمنة للسكّان، من خلال نشر قوّات دولية، وهو ما شمل منطقة سربرنيتسا في شرق البوسنة، التي تدفّق إليها اللاجئون البشناق خوفاً من التطهير العرقي الذي كانت تقوم به القوّات الصربية. وعلى الرغم من وجود قوّة هولندية هناك، إلّا أنّها لم تمنع القوّات الصربية من دخول البلدة عام 1995، وقتْل أكثر من ثمانية آلاف من الرجال والنساء والأطفال؛ وهو ما أثار سخطاً كبيراً وعجّل في التوصّل إلى "اتفاق دايتون" لوقف الحرب في البوسنة.
ومع أنّ الاتفاق فَرض تقسيم البوسنة إلى كيانَين متساويَين تقريباً (جمهورية الصرب مع 49% وفدرالية البشناق والكروات مع 51% من مساحة البلاد)، وهو ما تضمّن مكافأة للصرب الذين كانوا يشكّلون حوالي 33% من مجمل السكان قبل الحرب، إلّا أنّ "محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة"، التي تشكّلت في لاهاي، لم تُعفِ المسؤولين الصرب من جرائمهم السابقة. وهكذا مَثلت في المحكمة شخصياتٌ قيادية عسكرية ومدنية، وفي 2004، صدر أوّل حُكم ضدّ الجنرال راديسلاف كرستيتش لتورّطه في الإبادة الجماعية التي حدثت في سربرنتيسا، لتصل الأحكام ضدّ كبار الشخصيات المتورّطة إلى أربعة أحكام بالمؤبَّد، و700 سنة بالسجن، شملت رادفان كاراجيتش، رئيس جمهورية صرب البوسنة، والجنرال راتكو ملاديتش قائد جيش صرب البوسنة وغيرهما.
خلافاتٌ بسبب الخشية من انسحاب القرار على أوكرانيا وغزّة
ومع صدور هذه الأحكام، اعتمد البرلمان الأوربي في 2009 قراراً بشأن سربرنيتسا يدعو المجلس الأوروبي والمفوّضية الأوروبية إلى دعم قرار البرلمان بتخصيص يوم 11 تموز/ يوليو يوماَ عالميا لاستذكار الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، ودعوة جميع دول غرب البلقان (التي انبثقت عن انهيار يوغسلافيا) إلى "أن تقوم بذلك".
ولكن دول البلقان تصرّفت على مزاجها وحسب مصالحها؛ فمنها من تبنّى ذلك، ومنها من تحفّظ على الأمر، حسب الوضع القائم في بلغراد. فقد كانت الحكومة الصربية متعاونة حتى 2015، وسلّمت كبار المسؤولين المختفين في بلغراد إلى لاهاي لمحاكمتهم، ولكن، مع صعود الثلاثي القومي (ألكسندر فوتيتش وألكسندر فولين وإيفيتسا داتشيتش)، بدأ الموقف يتشدّد في بلغراد وينعكس على "جمهورية الصرب" في البوسنة، التي ارتبطت باسم الزعيم القومي المتشدّد ميلوراد دوديك.
وكان مما أجّج هذه المشاعر المتناقضة هو ضمُّ روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، وتمدُّد النفوذ الصربي نحو غرب البلقان، وتقديم بريطانيا في الذكرى العشرين للإبادة الجماعية في سربرنيتسا مشروع قرار لـ"مجلس الأمن" يدعو إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية في سربرنيتسا، ولكن روسيا مارست حقّ النقض ضدّ المشروع في 2015. وكان من الملاحظ أنّ هذا الموقف زاد من المشاعر القومية في صربيا والتقارب مع روسيا البوتينية. حتّى إنّه شُيّد في جمهورية صرب البوسنة تمثال للمندوب الروسي في الأمم المتّحدة فيتالي تشوركين، الذي صوّت ضدّ مشروع القرار، كما أَخذت صورة الجنرال راتكو ملاديتش، الذي حُكم عليه بالمؤبَّد في لاهاي لمسؤوليته عن الإبادة الجماعية، تَظهر في شوارع بلغراد باعتباره بطلاً قومياً، وليس مجرم حرب.
اصطفافاتٌ جديدة
مع اتّساع العدوان الإسرائيلي على غزّة وتجاوُز عدد الضحايا ثلاثين ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال، وانفتاح محكمة العدل الدولية في لاهاي على مناقشة ما يحدث باعتباره إبادة جماعية، تجدَّد الاهتمام فجأةً بالإبادة الجماعية في سربرنيتسا؛ حيث كشف وزير الخارجية في جمهورية مقدونيا الشمالية بويار عثماني، في الخامس عشر من نيسان/ إبريل الماضي، عن مشروع قرار مُقدَّم إلى الجمعية العامّة لاعتماد تاريخ 11 تمّوز/ يوليو "يوماً عالمياً لاستذكار الإبادة الجماعية في سربرنيتسا"، وهو ما أثار اصطفافات وتوتّرات جديدة في المنطقة والعالَم.
فعندما قدّمت ألمانيا ورواندا المشروع الجديد للجمعية العامّة، ودعمته الولايات المتّحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا ودول البلقان (سلوفينيا وألبانيا ومقدونيا وكرواتيا والبوسنة) وبعض دول "الشرق الأوسط" (مثل تركيا والأردن)، واجهَ المشروع معارضةً شديدة من روسيا والصين وكوريا الشمالية، بينما بدأت صربيا حملة كبيرة لحشد الرفض له في أوروبا و"العالم الثالث".
وبسبب ذلك، جرى تأجيل التصويت من الموعد الذي كان مقرَّراً مطلع الشهر الجاري إلى أيام لاحقة منه، حتّى يستعدّ كلُّ طرفٍ لمعركة التصويت، ولم تخفَ خلفيات ذلك على إريك غوردي، الأكاديمي والأستاذ في "جامعة لندن"، الذي رأى في الأمر "تغيّراً للسردية حول تحديد مفهوم "الإبادة الجماعية بعد الحرب في أوكرانيا وغزّة".
دخل الكيان الصهيوني على خطّ الحملة ضدّ مشروع القرار
ومن ناحية أُخرى، شارك السفير الإسرائيلي في بلغراد ياحيل فيلان في الحملة ضدّ مشروع القرار بقوله إنّ "إسرائيل لم تعترف أبداً بأنّ ما حدث في سربرنيتسا إبادة جماعية، وإنّ قراراً مثل هذا من الجمعية العامّة للأمم المتّحدة لن يحمل رسالة إيجابية، أو أن تبقى البوسنة والهرسك دولة واحدة".
وفي انتظار التصويت، ليس من السهل تأمين موافقة 130 دولةً في ظلّ الصراعات الحالية واصطفافات القوى الدولية والإقليمية؛ فقد رفع الرفض الروسي لمشروع القرار نسبةَ المؤيّدين لبوتين في الشارع الصربي في بلغراد وبانيا لوكا (عاصمة جمهورية صرب البوسنة)، وتراجَع لأوّل مرّة تأييدُ الصرب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى حوالي 40%.
كما أنّ الموقف الروسي والصيني والصربي سيؤثّر على تصويت الكثير من الدول في "الشرق الأوسط" وشمال أفريقيا و"العالم الثالث"، في ضوء عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية في غزّة. وفي الحقيقة، هناك خشية في المعسكرَين ممّا يترتّب عن الاعتراف بالإبادة الجماعية، وبالتحديد من قيام البوسنة بمطالبة صربيا بالتعويضات عن جرائم الحرب في سربرنيتسا وغيرها، أو ممّا سينتج عن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية، لارتكابها إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيّين في غزّة.
لغة حرب
وبغضّ النظر عن نتيجة التصويت في الجمعية العامّة، فإنّ ما حدث خلال الأيام الماضية من شحن للمشاعر بين البوسنة (ومن يدعمها) وصربيا (ومن يدعمها) جعلَ الأمور تتفاقم إلى حدّ العودة إلى "قاموس الحرب".
فقد اختار ميلوراد دوديك، رئيس جمهورية صرب البوسنة، والمعروف بصلاته الوثيقة بالرئيس بوتين، التلفزيونَ الروسي، في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، ليوصل عبره ما لم يُسمع من قبل من تهديد؛ حيث صرّح في لقاء أجراه على القناة أنّ الوضع في البوسنة سيتغيّر "بشكل دراماتيكي" في الثاني من أيار/ مايو 2024 (الموعد الذي كان مقرَّراً للتصويت)، مُضيفاً: "إنّنا لا نريد أن نتشارك الهواء مع البشناق". وبعد يومَين أضاف، عبر قناة "روسيا اليوم"، تهديداً فاقَ التوقّعات: "ستُدفن البوسنة والهرسك إذا اعتُمد القرار حول سربرنيتسا".
أمّا الصوت البشناقي على هذا التهديد بانفصال جمهورية صرب البوسنة (التي تأمّل أن تتّحد مع صربيا) فلم يأت من سراييفو بل من أحد نوّابه، البشناقي كامل دوراكوفيتش، الذي صرّح نهاية الشهر الماضي قائلاً: "إذا أعلن دوديك الانفصال عن البوسنة، فستنشب الحرب خلال ساعة".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري