يحمل واقع البلدان التي تحكمها أنظمة شموليّة نماذِجَ تفكيرٍ تبدو عصيّة على الإدراك، لو قام الفرد بقراءتها وفق خبراته اليوميّة العاديّة. ولربما يحتاجُ فهمُ النماذج التي ينتجها نظام انعدام الحريّات وندرة الأمل، إلى تَضافُرِ عدة مجالات من العلوم الإنسانيّة والأبحاث الاقتصادية والسياسية. لذلك نجدُ ميلَ الناس غير الاختصاصيين إلى الاستشهاد بالأدب من أجل تفسير الواقع، عبر البحث عمّا يُعادِل النماذِجَ الواقعيّة في الأدب، ولتنكسر الغرابة المَنيعة على الفهم والتي تحيطُ حياتهم.
ما إن تُذكَر الأنظمة الشموليّة حتى تَحضُر إلى الأذهان رواية "1984" لجورج أورويل (1903 - 1950)، وهي واحدة من الكتب التي تُغيّر وعي قارئها، أو تساهِمُ في صناعتهِ إن قُرئت في مرحلة مُبكِرة. إنّها رواية فادحة عن أشكال التحكّم بالفرد، وإن كانت الدّعاية الرأسماليّة قد وسمت النظام الاشتراكيّ بـ"الأخ الأكبر"، غير أنّ النصّ أرحبُ من اقتصاره على الاشتراكيّة، خصوصاً مع سقوط تلك الأنظمة.
فالأساس في النصّ هو تصوير آليات التحكّم بالأفراد والسيطرة عليهم، وذلك عبر مراقبتهم طوال الوقت، باستخدام شاشاتٍ موجودة في كلّ مكان، وعبر صناعة "حقائق" يوميّة تغيِّر في الذاكرة الجماعيّة، وتسلبُ ذاكرة الأفراد، مع انعدام القرائن التي تفرمها آلات "الأخ الأكبر". لو تأمّلنا هذه الحبكة التي صنعها أورويل لوجدنا، من دون جهدٍ، أنّ ذلك ينطبق على الرأسماليّة، على أدوات التواصل التي تُستَخدَم لمراقبتنا، وتغيير حقائق حياتنا يوميّاً، وعلى تقنيات الذكاء الصناعيّ واستخداماتها في التّسويق.
"حقائق" تغيّرالذاكرة الجماعية وتسلب ذاكرة الأفراد
نجحت رواية أورويل في تخطّي الدّعاية الرأسماليّة، وخلقت مجالَ نضالها الخاص، المُناهِض لنظام لا تمكن مُقارَعَته، فهو متحكّمٌ حتى في خصومهِ، ونجد أنّ أكبر معارضي النظام هو من أدواتهِ الصغيرة، يَستخدمه لكشف الخصوم وخديعتهم، ومن ثمّ سحقهم بصورة نهائيّة. ليس "الأخ الأكبر" مجرّد فرد، فهو نظام، يتشكّل من أربع وزارات؛ وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق، ووزارة الحبّ التي تنشر الكراهية، ووزارة الوفرة التي تحتكر قوت الناس، ووزارة السلم التي تقيم الحروب. ولنا أن نستبدل كلّ وزارة من وزارات أورويل بعدة وزارات من وزارات اليوم، كما يمكن أن نستبدلها بالشركات العالميّة الكبرى التي تتحكّم بموارد العالم وبمؤسساتهِ الثقافيّة.
غير أنّ فكرةً أكثر مُجتمعيّة تفسّر ظواهر عديدة ما تزال مجتمعات الأنظمة الشموليّة تَحفلُ بها. إذ يخبرنا أورويل عن مصطلح "التفكير المزدوج"؛ وهو الوصول بالفرد إلى أن يمتلك رأيين متناقضين في الوقت نفسهِ، وأن يؤمن بهما بالدرجة نفسها. بذلك وبحسب أورويل، يستخدم أحدهم المنطق ضد المنطق، كذلك يدّعي الأخلاق، ويرفضها في الوقت ذاتهِ.
لكن كيف ينجح نظامٌ سياسيّ في إحداث ذلك التغيير العميق في الأفراد؟ المسألة بسيطة. على الرغم من فداحتها، فالتفكير المزدوج كما يُعرِّفه أورويل، هو "قابليّة الماضي للتغيير"، عبر السيطرة على الحاضر وتزوير الماضي. وبالتالي، نفي التواصل مع المستقبل بسوى ما يُريدهُ النظام.
يحدثُ ذلك عبر السيطرة على الذاكرة، عن طريق إتلاف الوثائق وتغييرها يوميّاً. لتنمو داخل الفرد ذاكرتان، واحدة يفرضها النظام ويكرّسها بصورة حتميّة، وأُخرى تجيء من ذاكرة الفرد الحقيقيّة، وهي الحيّز الذي يتبقّى للبشر... وعلى هذه الازدواجيّة تنشأ الثقافة وتنمو مشروخةً. فتكون ثقافة فصاميّة؛ تتضامن مع الضحايا وتلقي اللوم عليهم، تندّد بالعنف وتمارسه، تنادي بالحريّة وتعمل على تقويضها.
يصعبُ على أناسٍ شهدوا تغيّر أعداء أوطانهم، أنْ يعبروا هذه التجارب من غير آثار تُعزّز الثقافة الفصاميّة. يصبحُ الفردُ منافقاً حتى على المستوى الشخصيّ من غير أن يعي نِفاقهُ، فهو يتحلّى بتلك الشخصيّة التي أبدع أورويل في تعريفها. إنّهم مواطنو التفكير المزدوج.
* كاتب من سورية