يمتلك ميشيل باستورو مكانةً خاصّة بين مؤرّخي الفنّ في فرنسا. فالباحث، الذي نشر أعمالاً عديدة حول العصر الوسيط، والرموز (مثل الأعلام الوطنية، والأختام الرسمية، وغيرها)، سيُعرَف قبل كلّ شيء بوصفه "مؤرّخ الألوان"، إذ تدين له المكتبة الفرنسية بسلسلة من الأعمال التي يقرأ من خلالها تاريخ الألوان في الحضارات بشكل عام، والغربية بشكل خاص، وهي أعمالٌ يقرأ فيها، أيضاً، تاريخ الفن من خلال هذا اللون أو ذاك.
بدأ باستورو أعماله في هذا المجال عام 1986، مع مؤلّفه "أشكال وألوان: دراسات حول الرمزية والحساسية في العصر الوسيط"؛ وأتبعه بسلسلة من الاشتغالات المُحاذية ("ألوانُ ذاكرتنا" ـ 2010، و"لا يأتي اللون مُفرَداً أبداً" ـ 2017، على سبيل المثال). على أن إضافته الفعلية في هذا السياق تتمثّل في سلسلة "تاريخ لون"، التي يُصدرها منذ عام 2000، ويخصّص كلّ كتابٍ فيها لتتبُّع سيرة لونٍ معيّن.
عن منشورات "سوي" في باريس، صدرت حديثاً طبعة جيب من كتاب باستورو "الأصفر: تاريخ لون" (صدرت الطبعة الأولى، الفنّية وذات القطع الكبير، عام 2019)، بعد أسابيع فقط من صدور عمله الجديد في السلسلة، أي "الأبيض"، ليصبح عددُ الكتب فيها ستّةً (مع الأزرق، والأسود، والأخضر، والأحمر).
وإذا كان حضور الأصفر هامشياً في يومنا هذا، بل و"صارخاً" (في دلالة على "خفّته" وعدم اتّزانه)، فإنه كان لوناً "شِبه مقدّس" في الحضارة المصرية ـ الفرعونية، ومعها حضارات قديمة أُخرى مثل اليونانية والرومانية. ذلك أنه، كما يقول المؤلّف، رمزٌ للضوء، وبالتالي للحياة، وهو جعله يحضر بوفرة في المراسم والاحتفالات الدينية القديمة. أمّا الجرمانيون والسلتيون، فقد ربطوا هذا اللون بالذهب، بما يعنيه من بقاء (أو "خلود") وغِنى.
يلاحظ المؤلّف انعطافة مهمّة في تاريخ هذا اللون بدءاً من العصر الوسيط، الذي شهد تدهور مكانة الأصفر بسبب "الازدواجية" التي راح يوصف بها: بين أصفر يُحيل إلى التهالك والخداع ــ وهي أفكارٌ جاءت إثر معتقدات طبّية ربطت بين الأصفر والعديد من الأمراض ــ وبين المكانة القديمة التي تربطه بالوفرة والديمومة (الذهب، والشمس).
ويُشير باستورو إلى أنه رُغم اعتبار علماء الألوان الأصفر واحداً من الألوان الأوّلية، ومحاولة إعادة تأهيليه فنّياً خلال فترة الحداثة، إلّا أنه سيبقى لوناً تحذر الثقافات منه. وتبعاً لمقولته بأن "اللون لا يأتي مُفرداً أبداً"، فإن المؤلّف يحلّل عدداً من تنويعات الأصفر حين يُمزج أو يقترب من ألوان أُخرى، حيث يُحيل إلى المرض والتعب والتدهور حينما يقترن بالأخضر ويتدرّج إليه، في حين يُحيل ــ ولا سيّما في يومنا هذا ــ إلى الطاقة والقوّة والسعادة والحيوية حينما ينتفح على البرتقالي، متأثّراً، بالطبع، بالمقولات الثقافية والطبّية حول الثمار والفاكهة التي تحمل هذا اللون.