ستكون مُجازفة لو فكّرت بالعمل في عالم "الأصوات"، لن تنعم باستراحةٍ بعد اليوم، ستُغمض عينيك، وتجد نفسك قد استنهضتَ كُلّ التفاصيل التي كانت صامتة، بعد يومٍ عصيب انشغلت فيه على حلقة "بودكاست" مثلاً.
غارقاً بين الملفات الصوتية، ستأخذ كُلّ كلمة على محمل الشعور، وتذهب بها إلى إيقاع الموسيقى الأقدر على ذلك الحِمل، فإنْ لم تجد، ستحمل الكلمة معك أينما رُحت، وتكتشف أنّك مُحمّلٌ بكُلّ الأصوات التي مزجتها على برامج الصوت على الكومبيوتر.
ستسير في الشارع وتَقوم مسيرة مُشيّعين في رأسك، لن تفلت كلمة أُمّ قالتها مكلومة وهي تودّع ابنها، الكلمة التي سُجّلت عن غير قصد لشهيد ضحك غير مُكترث لكاميرا الهاتف، ستصير وصية تتردّد في أذنك قبل المنام.
سيحدُثُ أن تُغمض عينيك في اجتماع العائلة، وتُستَنهَض كُلّ الأصوات التي باتت داخلك، وتجد نفسك بعد أن تفتح عينيك، في مكانٍ آخر.
■■■
أذكرُ تجربتي في الشعر التي أُحاول استعادتها مؤخّراً، لم أكن سوى مُدقّق لغوي لكُلّ الأصوات التي كانت تُخلَق داخلي، ولم أكن أصنع شيئاً سوى جمع فوارغ الرصاص الذي كان يتفجّر على جبهة صدري. كُنتُ ظننتُ منذ فترة، أنّني حين أكتمُ الأصوات داخلي سأُحكِم مسْك الأصوات في الخارج، واليوم، أرى أصواتاً أخرى قد حرّرت المكتوم.
أوركسترا تقوم وتموج في الشارع، يقف الشهيدُ فيها على منصّة النعش، مايسترو يُلوّح بأصبعه للحشد، فيعلو صوت الهُتاف، يُنزِل يده ويرفعها في مكانٍ آخر، فتعلو الزغاريد وأصواتُ الطلقات، ويختلطُ كلامُ النّاس مع النحيب.
وفي حركة دائرية من يده، يُنهي الشهيدُ مزج الأصوات، حانياً رأسه وباسطاً ذراعيه بشكلٍ أُفقيّ، يصمت الجمعُ، ويَنزِل الشهيدُ عن أكتاف المشيّعين على رجليه، ليتّخذ وضعيته في حُضن الأرض.
أفتح عيْنَيّ، أكتُّ التُرْبَ عن كتفي، وأنزلُ عن الفراش على رجلي مدفوعاً نحو المكتب، أجمع الأصوات وأمزجها، مثل مايسترو.
■■■
الرواية الأدبية التي كانت بين يديك ورقاً هامداً، ستسمع بأُمّ أُذنك وأنت تفتح دفّتي الكتاب أصوات الملاحم التي تُرتَكَب، وقد ينطق أحدهم بلسانك أثناء القراءة، ساعتها، احذر من أن يتمكّن منك، أو خلِّه بالقدر الذي يُمكّنك من صوته، فإن لم تستطع، احرص أن تنجو بنفسك.
في عالم الأصوات، ستتخلّص ــ على الأقل ــ من كذب الصورة وزيفها.
* كاتب وصانع بودكاست من فلسطين
تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
