يعود الباحث ناصر الدين سعيدوني في كتابه "المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة (دراسة تاريخية نقدية)" الذي صدر عن "سلسلة قضايا" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، إلى انقسامات النخبة الجزائرية بعد الاستقلال بين السّاعين إلى تعزيز الانتماء الحضاري لغةً وهويةً ومرجعيةً حضاريّة، ومن وجدوا في الثقافة الفرنكوفونيّة والحركة الأمازيغيّة والتوجّه العلماني أدوات لكبح مسعى استرجاعِ المجتمع الجزائري المتحرِّر من الهيمنة الاستعمارية هويتَه المتجذرةَ في الموروث الحضاري العربي والإسلامي.
في تمهيد الكتاب "المسألة الثقافية في الجزائر - المنهج والإشكالية"، يتناول المؤلف منهجية البحث ونوعية الدراسة وحيزَيها الزماني والمكاني، ويقدم نظرة عن الكتابات حول المسألة الثقافية في الجزائر، من العرض التقريري إلى تجديد المقاربات، وينتهي بالمفاهيم والمصطلحات والتعابير المحددة للمسألة الثقافية في الجزائر.
يقع القسم الأول، "من صدمة الاستعمار إلى ثورة التحرير: محاولات الإحياء وبذور الصراع الثقافي"، في ثلاثة فصول. في الفصل الأول، "الاستعمار الفرنسي وحركة الإحياء الجزائرية - النخب التقليدية والاندماجية"، يعالج سعيدوني السياسات الاستعمارية وأثرها في المجتمع وثقافته، ومشروع إلغاء الوجود التاريخي والثقافي (الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا الاستعماريتان) وبوادر التيقّظ والإحياء، وحركة الإحياء في نسختيها التقليدية والاندماجية.
يقدم المؤلف نظرة عن الكتابات حول المسألة الثقافية في الجزائر
يعرض المؤلّف في الفصل الثاني "الحركة الوطنية الجزائرية: التيارات السياسية الجزائرية المؤسِّسة للمسألة الثقافية"، الوضع الثقافي في الجزائر قبل الثورة والاستقلال، "بالرجوع إلى توجّهات وبرامج التيارات السياسية المكوّنة للحركة الوطنية الجزائرية التي يمكننا التعرف من خلال مواقفها المختلفة إلى تناقضات المشهد الثقافي الجزائري التي أسست للانشطار والتصادم اللذين لا يزالان يطبعان النخب الثقافية الجزائرية من حيث تصوراتها ومنظورها الأيديولوجي إلى اليوم"، متناولاً التوجّه التحرري الإصلاحي والاستقلالي، والتوجّه الاندماجي الليبرالي والشيوعي، ومتوقفاً عند ثلاثة حوادث سياسية تحمل بذور الاختلاف في القناعات والتصورات، التي سوف يكون لها أثر مباشر في الفضاء الثقافي في جزائر الاستقلال. وهذه الحوادث هي: المؤتمر الإسلامي (1936)، وبيان الشعب الجزائري (1943)، وحوادث 8 أيار/ مايو 1945.
ويتناول في الفصل الثالث "الثورة التحريرية وإشكالية الثورة والثورة المضادة"، الثورة الجزائرية من حيث العوامل والظروف، ثم مفهوم الثورة المضادة وأسس هذه الثورة المضادة في أثناء الثورة الجزائرية.
يتكون القسم الثاني "المشهد الثقافي الجزائري ومعضلة التكامل والاندماج الثقافي - بناء الدولة بين التناقضات الفكرية والاختلافات الأيديولوجية"، من خمسة فصول. يتناول المؤلف في الفصل الرابع، "منظومة الحكم والشأن الثقافي - بناء الدولة"، مسألة التعريب وما يتصل بها من إجراءات وتنظيمات ومواقف وقرارات أثّرت في الفضاء الثقافي، وحالت دون استكمال الجزائر استقلالها الثقافي، "من حيث إنها كرّست وضعاً ثقافيّاً يتميّز بالازدواجية في الفكر والسلوك بين أصحاب الثقافة العربية وحاملي الثقافة الفرنسية، وبين ذوي الميول الإسلامية وأصحاب الأفكار العلمانية، وبين مختلف الكتل والعُصب الحاكمة التي ظلت مرتبطة بحزب جبهة التحرير الوطني، قبل أن تتفرع عنه في شكل أحزاب وجمعيات في عهد التعددية".
ويعالج في الفصل الخامس "الفضاء الثقافي الجزائري ودور النخب في صوغه وتفعيله"، مسائل انشطار النخب الجزائرية إلى حداثية متغربة وتقليدية أصيلة، والنخبة التقليدية الأصيلة (المعربة)، والنخبة الحداثية المتغربة (الفرنكوفونية)، وطبيعة النخب الجزائرية ومميزاتها.
يتحدث سعيدوني في الفصل السادس "عروبة الجزائر من خلال عملية الاستعراب وآفاقه"، عن عروبة الجزائر من خلال عملية الاستعراب أو التعريب الذاتي، وعن آفاق الاستعراب في المجال الثقافي: من اللسان الدارج إلى اللغة الفصحى وجدلية لغة الأم واللغة الأم.
يبحث المؤلف في الفصل السابع "الحراك الأمازيغي (البربري) في مظهره السياسي وتعبيره الثقافي"، في مسيرة الحركة البربرية وانبعاثها (1962–1980)، وتجذّرها (1980–2018)، والتوجه الانفصالي في هذه الحركة. ويتناول في الفصل الثامن "الشحنة الأيديولوجية للحراك الأمازيغي (البربري) - البحث عن الخصوصية وتراث مفقود وهوية متخيّلة"، مسألة البحث عن لغة معيارية مفقودة، ومسألة الخط واعتماد التراث الجزائري المشترك للتأسيس للخصوصية البربرية، والبحث عن إثنية بربرية ذات خصوصيات قومية، تحميل التاريخ معطى أيديولوجيّاً ومضموناً عرقيّاً.
يضمّ القسم الثالث "التعريب والصدام بين مشروعين ثقافيين"، ثلاثة فصول. في الفصل التاسع "التعريب في الجزائر بين مد وجزر"، يناقش المؤلّف محطات التعريب في الجزائر، وفي قانون تعميم استعمال اللغة العربية وتجميده، وفي العوامل المعوِّقة للتعريب.
ويدرس في الفصل العاشر "المنظومة التربوية ومسألة إصلاح التعليم"، تطور المنظومة التربوية وإصلاحاتها، ونظام حكم بوتفليقة و"إصلاح" الإصلاح ولجنة بن زاغو وإجراءات بن غبريط، بينما يتناول الفصل الحادي عشر "اللغة الفرنسية: أداة تموقع أيديولوجي وهيمنة اقتصادية واجتماعية"، مزاحمة العربية للفرنسية وتشكّل فضاء الازدواجية اللغوية، وهيمنة حرب الاسترداد اللغوية - الفرنسية على أجهزة الدولة والمصالح الإدارية، وتحول النظام إلى عرّاب للفرنسية في عهد التعددية، إضافة إلى مسألة الجزائر والفرنكوفونية، أي كون الفرنسية في الجزائر مسألة ثقافية.