بقلم الحبر الناشف، وثّق نجاح البقاعي فترة اعتقاله سنة 2011 في فرع الأمن العسكري، المعرف أيضاً باسم "الفرع 227"، ثم مكوثه في "سجن عدرا" بدمشق خلال عام 2014، حيث لم يجد بعد خروجه من المعتقل وسفره إلى بيروت، متنقلاً بين أكثر من بيت، سوى دفتره ليحفظ اسكتشاته الأولى من ذاكرة السجن.
رسَم الفنان السوري (1970)، المقيم اليومَ في فرنسا، مراحل الاعتقال من ضرب وركل ورُعب، وصولاً إلى لحظة نقل السجناءِ زملاءَهم الذين فارقوا الحياة تحت التعذيب إلى شاحنة الموتى، وغيرها من التفاصيل التي يقدّمها في معرضه "كلّنا شهود"، الذي افتُتح في غاليري FAIT & CAUSE بباريس منتصف آذار/ مارس الماضي، بالتزامن مع الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة السورية، ويتواصل حتى نهاية نيسان/إبريل الجاري.
يرسم البقاعي السجناء بهيئة شبحية؛ عراةً يسيّرهم الإنهاك والتعب، في لحظة يصعب فصل الألم فيها عن الفن، والتعامل معه وفق منحى جمالي. ذلك أن سحق الكائن البشري يصل هنا إلى حدوده القصوى، ولا يمكن حتّى للكوابيس أن تتجاوز في فظاعتها ما يذهب إليه الواقع الذي يعيشه هؤلاء السجناء.
الحفر وسيط فني ملائم لتقديم القضية التي يعالجها الفنان، مع إمكانية تكثيف الأسود في العمل الفني وإبراز الحالة النفسية المركّبة التي يعكسها اجتماع هذه الأجساد المقهورة والمعذّبة في فضاء يبدو فيه كل شيء مضغوطاً وسابحاً في الفراغ الداكن الذي يعادل موضوعياً اليأس والقنوط من النجاة من بطش السجّان. فراغٌ ممتلئ بالوحشة، جاثم على السجناء، بما يتطابق مع وصف البقاعي للسجين بأنه "معلّقٌ على الدوام بين الحياة والموت".
رسومات بالحبر وأعمالُ حفر تصوّر مشاهد التعذيب والقنوط
تذكّر هذه المناخات بعوالم الفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا، مع فارق أساسي أن البقاعي كان يرسم وقائع اختبرها وعايشها عشرات الآلاف من السوريين، وباتوا يعلمون بما كان يحصل خلف القضبان، بينما كان غويا يرسم كائنات مسخية في محاولة لتخيّل القمع والعذاب الذي مارسته محاكم التفتيش بإسبانيا، وذهب ضحيتها آلاف الأبرياء.
تجسّد الأعمال زنزانة مساحتها ستّة وخمسون متراً مربعاً، حُشر فيها أكثر من مئة وعشرين معتقلاً، من مختلف الأعمار، إذ كان عددٌ من الفتيان القاصرين بينهم، مع تنويعات مختلفة للتعذيب الذي ذهب ضحيته اثنا عشر سجيناً أمام مرأى البقاعي، بينما قضى آخرون مرضاً، أو على يد الجلاّد الذي يظهر أحياناً وهو يخنق السجناء بيديه، كما يوثّق ذلك أحد الأعمال المعروضة.
بالتزامن مع المعرض، صدر كتابٌ بالعنوان ذاته عن دار "أكت سود" الفرنسية، تضمّن صوراً لكلّ الأعمال المعروضة التي قدّم لها الناقد والمؤرخ الفني الفرنسي جيروم غودو، في حين وقّعت الصحافية السورية هالة قضماني سيرةً للبقاعي. ويشتمل الكتاب على أربعة وعشرين تعليقاً وشهادة ونصاً مكتوبة انطلاقاً من أعمال البقاعي والفظاعات التي تصوّرها، ووقّعها أكثر من عشرين كاتباً وفنّاناً، مثل نانسي هيوستن من كندا، وسانتياغو ألبا ريكو من إسبانيا، وأمادو آمال دجايلي من الكاميرون، وجاك بيرتران من فرنسا، وألان رايدنغ من بريطانيا، ومحمد برادة من المغرب، وسنان أنطون من العراق، وحبيب عبد الرب سروري من اليمن، وعلاء الأسواني من مصر، ووجدي معوّض ودومينيك إدّه من لبنان، وسمر يزبك من سورية، وغيرهم.