عقَد فرعُ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في بيروت، جلسةً نقاشية مساء أول من أمس الاثنين، حول كتاب المُفكّر العربي عزمي بشارة، الصادر حديثاً بعنوان "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات"، وشارك فيها أربعة باحثين، هُم: طارق متري، وساري حنفي، وبشار حيدر، وأنطوان سيف الذي قرأ ورقته مُدير الجلسة الباحث خالد زيادة.
مهّد زيادة للجلسة بالإشارة إلى أنّ الكتاب ينطلق من واقع أنّ الدولة لم تبقَ فقط، بل توسّعت، رغم كل المقولات التي بشّرت بزوالها، الأمر الذي اقتضى من المؤلِّف الاطّلاع على كلّ النظريات التي تناولت موضوع الدولة، في مبدأها وتاريخها ووظائفها، مستكملاً أعمالاً أُخرى مثل "المجتمع المدني" (1996)، و"في المسألة العربية" (2007)، و"الدين والعلمانية في سياق تاريخي" (2012)، و"الانتقال الديمقراطي وإشكاليّاته" (2020). كذلك فإن هذا الكتاب يملأ الفراغ في الدراسات العربية حول الدولة الحديثة.
المُواطَنة بوصفها شرطاً لبناء الدولة الحديثة
أول المتدخّلين في الجلسة، هو الباحث والوزير اللبناني السابق، طارق متري، الذي انطلق من واقع لبناني، مُلتفتاً إلى "إشارة الدكتور عزمي بشارة المُتبصِّرة إلى حالة بعض الدُّول على البقاء، رغم الهشاشة التي تنتاب بعضُها ومنها لبنان". ووصل بشارة، وفقاً لمتري، إلى أنّ الدولة القويّة بمؤسّساتها وشرعيّتها شرطُ المجتمع القوي. و"لكنه لا يكتفي بذلك، بل يُشدّد على شمول المواطنة في تعريف الدَّولة، وأنّ هُناك علاقة لا تنفصم بين الدَّولة والمُواطَنة". وتابع: "يأخذ الكتاب بيد القارئ، من الانتقال بمسار التأمّل الفلسفي إلى مباحث العلوم الإنسانية وغيرها من المعارف، قديمها وحديثها، من أرسطو حتى الفرنسي بيير بورديو، ثم يعرض للأسئلة العربية، بأسلوب سلِس يُنزل الكلمات في مواضعها".
استنطاق لمروحة واسعة من العلوم الإنسانية والنظريات
واستعرض متري الكتاب، من حيث معالجته أربع نظريّات للدولة، هي: الماركسية، والليبرالية، والفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر)، والقومية، ومن ثمّ نقدها مُستعيناً بالعلوم الاجتماعية، ومتحفّظاً حيال احتمالات تورُّطها في مأزق، حين تُحاول العلوم الاجتماعية تقليد الفلسفة من حيث البِناء على مبنى واحد. ويعود الكتاب، وفقاً للمُحاضِر، إلى مناقشة مستفيضة للفكرة الهيغلية، ولنظرية العَقد الاجتماعي وللتعدُّدية، ولفَهم الدولة بوصفها مؤسّسات يحكُمها دستور وقوانين.
واستطرد متري في تبيان أن الكتاب يُحمّل القارئ مسؤولية المواءمة بين أفكار نابعة من أنظومات فلسفية مختلفة، بمعنى الابتعاد عن التفسيرات الكلّية، كما في الماركسية والليبرالية الصارمة. وتزداد هذه المسؤولية، عند الانطلاق من تاريخ الدولة الحديثة في العالَم العربي ومعالجة مسألة شرعيّتها. فاليوم يُبدّد البعض هذه المسؤولية والحيرة، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، بالمَيل صوب الفيبرية، نظراً لمُعالجة نظريّته (فيبر) بصورة واقعية قضيةَ الشرعيّة، من باب احتكار العُنف بشكلٍ خاص، والانصراف عن مسألة النشوء إلى تحديد الوظائف والبُنية.
ويرى متري، أيضاً، أنّ الحديث عن شرعيّة الدُّول، ازداد إلحاحاً مع صُعود المشروع الإسلامي الحديث، فـ"من المعروف أن "حاكمية الله" عند المودودي، وكذلك سيّد قطب، هي الأساس الذي قامت عليه معايير الشرعية عند الإسلاميّين، ففتحت الباب أمام نفي سيادة الدولة، من باب فرض تشريعات عليها من خارجها".
وإذا ما تابعنا الكتاب بـ"عيون عربية"، كما وصّف متري قراءته، فإنّه يستوقفنا أنّ ما من دولة يصحُّ الكلام عنها إنْ لم تتوافر فيها مؤسَّسات سياسية مُتمايزة عن الجماعات (الوشائجية)، وعن مؤسّسات الجماعات، فلا دولة حديثة، حين تقوم الجماعات العضوية بتسيير حياة الناس طبقاً لقواعدها الموروثة. وهو شرطٌ غير متحقّق في أغلبية البلدان العربية، فلبنان على سبيل المثال، يستحوذ فيه ممثّلو الجماعات الطائفية، أو من يقولون إنهم ممثّلوها على الدولة، التي تتحوّل على أيديهم إلى "غنيمة". حيث نرى السياسيِّين يستخدمون أدوات الدَّولة ومؤسّساتها للفَتْك بالدَّولة نفسها، أو مُمارسة الوساطة الإلزاميّة بين المُواطن الفَرْد والدَّولة، ما يُؤدّي إلى ضَعْف التمييز بين الدَّولة والسُّلطة. فكما أنّ الدولة تُساوي بين الرعايا، فإنّ السُّلطة عكسها تماماً، تعمل على التمييز بينهم.
وناقش متري تناوُلَ الكتاب للدُّول العربية التي يحكمُها الحزبُ الواحد، وتتمتّع فيها طائفة بعينها بنفوذ كبير وأغلبية ملحوظة، مثل سوريّة، وما خلُص إليه بشارة في هذا السياق، من أنّ النُّظم الحاكمة لم تنجم عن عصبيّات، بل في بعض الحالات ولّدت عصبيّات.
وختم متري مداخلته بإشارة الكتاب إلى أهمّ ما يحول دون بناء دولة المواطنين، وهي الشُّروخ الاجتماعية، وبُعد الأفراد عن الدَّولة، وعُمق علاقاتهم بجماعاتهم، سواء أكانت حقيقية أم متخيَّلة، وتحوُّل الأنظمة إلى نموذج سُلطاني، وانحسار ثقافة الخِدمة العامّة. ويؤكّد أنّ الدَّولة الحديثة ليست مُعطىً جاهزاً مُتعالياً (هيغل)، بل هي بانية ومَبنيّة في الوقت ذاته. مع ذلك ينتقد النَّزعة المُعولمة التي راحت تستغني عن الدولة بالمؤسّسات غير الحكومية، وبالنهاية غياب الدولة ليس رديفاً للحرّية.
المُواطَنة وصيرورة الانتماء الثقافي
بدوره قرأ الباحث ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، الكتابَ بـ"عيون سوسيولوجية"، بما هو تنظير فلسفي يتجاوز الاهتمام العربي إلى العالمي، وهذا ما ستثبتُه الترجمة الإنكليزية للكتاب لاحقاً، بحسب حنفي، التي ستجعل من الكتاب، مستقبلاً، محطّ نقاش لدى المختصّين والباحثين بمسألة الدولة، من حول العالم، وليس فقط الباحثين العرب.
ووضّح حنفي مبدأ الكتاب من حيث تشديده على أن "غياب الدولة وهمٌ جلَل، وأنّ هناك توتّرات جمّة، بين السيادة والمواطنة". يَبسُط العمل هذه المفاهيم جنيالوجياً، بتعبير حنفي و"يُسقطها في الحقل التداولي العربي، مع إظهار مدى تَبعات هذا الإسقاط، من خلال تجاوُز التأمّل الفلسفي إلى مقاربات أُخرى كالمثالية ونظرية العقد الاجتماعي والمدرسة التعدّدية، حيث لا مدرسة من هذه تقدِّم بذاتها فهماً شاملاً للدولة".
قراءاتٌ فاحصة بعيون عربية وسوسيولوجية ومعيارية
ركّز بشارة، وفقاً لقراءة حنفي، على المُقاربة الليبرالية، وانتصر لها بطريقة نقديّة طبعاً، وليس تطبيقاً حرفيّاً لمقولات جون رولز أو تشارلز تايلر أو غيرهما. كما تناول عبد الله العروي، وتأثّره بالمنظّر الألماني كارل شميت، وهو ناقد كبير للمقاربة الليبرالية، وفهم الإنسان ككائن شرّير، هذا ما جعل مقاربة العروي تخلص إلى نتائج تنتصر فيها الدولة على حساب المجتمع.
وقد أعطى بشارة في كتابه، حسب حنفي، الفيلسوف الألماني هيغل مكانة متميّزة بوصفه "فيلسوف الدّولة"، حيث تقوم نظريته على نفي نظرية التعاقُد، وبالتالي نظريته هي نفيٌ للتنوير، لكونه لا يفهم الدَّولة على أنها تجسيدٌ لعَقد اجتماعي، بل تجسيد للأخلاق العمومية في مؤسّسة تستطيع تمثيلها وتطبيقها. ولا يتمثّل جوهر الدَّولة الأخلاقي بقانون صُوري، على الطريقة الكانطية، الذي اعتبر الأخلاق واجباً، بل يجدها في حياة المجتمع الأخلاقية، والعائلة، والمجتمع البرجوازي، والمجتمع المدني، وصولاً إلى الدولة.
ويتساءل حنفي: إذا كان الدِّين، عند هيغل، يلعب دوراً باعتباره تفاعُلاً بين البروتستانية والأخلاق العمومية، فهل يبقى ذلك صحيحاً في ظل التنظير الليبرالي للعلمانية؟
وهنا يقترح حنفي دفْعَ هذا التحليل الهيغلي حول هذا التفاعُل بين الخصوصي والعمومي بطريقة متعالية ("ترانسندتالية")، بالاعتماد على ما أدخله المؤرّخ الهندي راسنجيت دوارا Prasenjit Duara، صاحب "أزمة الحداثة العالمية"، من فهم محايث/ حواري يُفضي إلى حِيادية نسبية للدولة بمسألة الدِّين.
يبقى البحث في المواطنة أهم اشتغالات الكتاب، كما ختم حنفي مداخلته، فـ"حسب بشارة المواطنة مستقلّة عن المفاهيم القومية، والتطابق بينهما قد ترك تاريخياً آثاراً عميقة في الدولة الحديثة، ويتابع في أهمية الشعور بالوطنية (الولاء للدولة)، وتقاطعها مع الجمهورانية من ناحية صيرورة وجود انتماء ثقافي". وتتلخّص شروط الدولة أخيراً بسبعة عوامل: إقليم ترابي وشعبي، وسلطة تشريعية، واحتكار وسائل العنف، وممارسة سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء بشكل حصري، وجهاز بيروقراطي، والمواطنة، والاعتراف بالكيان سياسياً.
تجنُّب اختزاليّة "احتكار العنف"
أمّا الباحث وأستاذ الفلسفة في "الجامعة الأميركية" ببيروت، بشار حيدر، فانطلق من حيث انتهى حنفي، متناولاً الفصل الثامن من الكتاب بالتحديد، بعنوان "تعريف فيبر للدولة ومفهوم الشرعية"، مُنبّهاً إلى تساؤل عزمي بشارة: هل تعني الدولة احتكار العنف الشرعي؟
يعترض المفكّر العربي على هذا الاختزال، كما يقول حيدر، فالأفضل عنده (بشارة) تحليل الدولة استطراديّاً لا جوهرانياً. وبالتالي يصف حيدر مداخلته بأنها قراءة بـ"عيون معيارية"، بمعنى النظر في الفروقات بين الدُّول وما تحتويه من عناصر لتكون بالفعل دولةً حديثةً. و"بهذا المعنى حتّى الدُّول السُّلطوية تدَّعي أنّها حديثة، ولكن في الحقيقة الدَّولة الليبرالية المتأسِّسة على الحرّيات السياسية هي الأقرب لتحقيق شرط التشريع من الدُّول السُّلطوية. كما أنّ هذه الأخيرة يصعب ضبطها ضمن 'حُكم القانون'".
كتابٌ يحمل من شخصية مؤلّفه وتجربته السياسية
ويتابع حيدر، كلّما اقتربت الدَّولة من استيفاء شُروط الدَّولة الحديثة، حسب بشارة، تمكّنت أكثر من أن تكون ديمقراطية، لكن بالوقت ذاته قبول الحاكم لا يعني بالضرورة الدّيمقراطية، وعلى سبيل المثال المقاومات التي تنادي بتحرير الأرض، تكتسب شرعيتها من هذا القبول. أو كذلك كان حُكم جمال عبد الناصر، أو حتى أنظمة الشرعية التقليدية المتوارثة.
وختم حيدر بإشارة الكتاب إلى أنّ ليست كلّ الدُّول على مستوى واحد في امتلاكها شروط الدولة الحديثة. وقد تكون الدولة مقبولة والنظام غير مقبول، وبالتالي هناك تشعُّبات في هذه المسألة وليست متّصلة بشكل مباشر. كما أنّ المنافسة السياسية بين الجماعات قد تقضي على الدّولة، بقدر ما تكون الشرعية المبنيّة على القوّة فقط، أو التهديد بها، مصيرُها إلى التآكُل، أو تفقد شرعيّتها حتى لو استمرّت.
وخُتمت الجلسة بورقة أنطوان سيف، التي قرأها خالد زيادة، حيث دلّل على استنطاق عزمي بشارة مروحة واسعة من العلوم الإنسانية في هذا الكتاب، موضّحاً (بشارة) أن الدّولة ليست غريزة، بل مُكتسبة، وبمجهود بشري مستمرّ. وقد تكون رحلة الكتاب انتهت، و"لكنّ الموضوع بقي مفتوحاً، بعد أن حرّك عدّة نظريات مُتقابلة أمام القارئ،. كما أن الكتاب ينتمي إلى زمنٍ آتٍ للدَّولة، إذ لم يُعالِج موضوعاً مُنعزلاً ولا هامشياً".
منهجيّة الكتاب، حسب سيف، تقوم على مفهوم نقدي، يستفيد من كلّ النظريات المصوغة ويتجاوزها، على طريقة الديالكتيك الهيغلي، واضعاً لائحة بكلّ ما استجدّ من دلالات حديثة على مصطلح الدولة، ومبيّناً أنه ما من دولة هي جماعة منسجمة كلّياً. ولفت سيف إلى أن بشارة قد سلك سلوكاً بحثيّاً حيّاً حين أورد أمثلة من الوقائع الحاصلة على الأرض، وشدّد على مسألة المُواطنة كأطروحة مركزيّة في الكتاب، للتدليل على ضرورة تجاوُز مقولة الرّعية وصولاً إلى الشعب. والكتاب في نهاية المطاف، "يحمل من شخصية مؤلِّفه السياسية والفريدة بتنوّع تجاربها، فالدولة الحديثة والتفكير فيها ظلّ دأب الدكتور عزمي بشارة، وهذا ما تجلّى في تجربته بتأسيس مؤسسة كالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".