عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، صدر حديثاً المجلّد الثالث من أعمال الشاعر السوري نوري الجرّاح، ضامّاً، في 576 صفحة، الجزءَ الأَوفى من أَشعاره المكتوبة في العقد الأخير، ولا سيّما مجموعاته المنشورة بين عامَيْ 2011 و2019، وهي: "يوم قابيل والأيام السبعة"، "يأسُ نوح"، "قارب إلى ليسبوس"، و"نهر على صليب".
يأتي صدور الكتاب بالتزامن مع احتفاءٍ باريسيّ بتجربة الجرّاح (1956)، الذي تشكّل قصيدتُه الطويلة، "الخروج من شرق المتوسّط"، (2019) موضوعاً لمعرضٍ تشكيليّ للفنّان السوري أسعد فرزات، يستضيفه غاليري "أوروبيا" في العاصمة الفرنسية حتى منتصف الشهر الجاري، حيث رسمَ فرزات العديد من اللوحات انطلاقاً من هذه القصيدة التي تكتب حاضِر السوريين المأساوي وتُضيء ماضيهم. كما تُطلَق الترجمة الفرنسية للقصيدة (قام بها أيمن حسن)، في كتابٍ، خلال أمسيةٍ يستضيفها الغاليري نفسه في الرابع عشر من هذا الشهر، بحضور الشاعر.
وكان المجلّدان الأوّل والثاني من أعمال الجرّاح الشعرية صدرا عامَ 2008 عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر". ضمّ المجلّد الأوّل مجموعاته المبكّرة: "الصبيّ" (بيروت، 1982) "مُجاراة الصوت" (لندن، 1988)، "نشيد صوت" (كولونيا، 1990)، "طفولة موت" (الدار البيضاء، 1992)، "كأس سوداء" (لندن، 1993)، "القصيدة والقصيدة في المرآة" (بيروت، 1995). أمّا المجلّد الثاني، فتشكَّلَ من مجموعات: "صعود أبريل" (بيروت، 1996)، و"حدائق هاملت" (بيروت، 2003)، و"طريق دمشق" (بيروت، 2004)، و"الحديقة الفارسيّة" (بيروت، 2004).
يُعَدّ الجرّاح، المولود في دمشق، واحداً من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، فهو صاحب مشروع شعريّ حداثيّ تبلور منذ تسعينيات القرن الماضي مع توالي صدور مجموعاتٍ اعتبرها نقّاد شعره بحثاً مختلفاً في القصيدة، وتعميقاً للرؤية والموقف الشعريّ من الوجود. كما يتّسم شعره بتعدّد مصادره، حيث ينتقل من الحاضر بأشدّ تفاصيله واقعيّة إلى الميثولوجيا والسرديّات التأسيسية، ومن الرؤئ الوجودية إلى النزوع الملحميّ.
ويعتبر النقّاد، الذين تناولوا شِعر الجراح، أنّ العقد الأخير من تجربته فتحَ أُفقاً جديداً للقصيدةِ العربية، بتطوير لغةٍ شعريّة خاصّة، ملحميّة، تستدركُ الأسطورةَ والتاريخ، إلى جانب الوقائع المعاصرة؛ لغة عبّر من خلالها، بجماليةٍ مبتكرةٍ ورؤيةٍ حديثةٍ، عن ذاته الشّعريّة في ارتباطها الوجداني (من موقعه في المنفى) بالتحوّلات العاصفة، والآلام الكبرى التي حلَّت بالسوريين بعد ثورتهم على الاستبداد.
وتأتي المجموعات المنشورةُ في هذا الجزء الثالث من أعماله لتعيد التأكيد على عَدم انفصال حداثة الشعر عند الجرّاح، وابتكاريّته، عن الموقف الأخلاقي للشاعر بوصفه أوّل المدافعين عن الحقّ والجمال والحرّية في الأزمنة العاصفة.
وفي تعليقٍ له على صدور هذا المجلّد الثالث من أعمال الجرّاح، يصف الناقد والأكاديمي السوري، خلدون الشمعة، الأعمالَ المنشورة فيه بأنها "تصدر عن شعرية وجودٍ وكينونة، شعرية خِصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر. فمِن خصامنا مع الآخرين - يقول ييتس - نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر".
ويضيف الشمعة أن "أيقونية تجربة نوري الجرّاح لا تكمن في أنه أدخل تأويله الشخصيّ على الشعر الملحميّ فحسب، بل وفي أنه تمكّن، وفقاً للموهبة الأكثر إفصاحاً، من أن يُدخل جنساً أدبياً جديداً كل الجدّة على الشعر العربي، وأعني به "الملحمة النقيض" mock- epic، وهو جنس أدبي معروف في الأدب الإنكليزي، لا يُقَلِّد ولا يُحاكي، بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة".
ويرى الشمعة أنّ "ذواقة الشعر العربي سيحتفون بهذه التجربة المعبّرة بصدق" عن محنة السوريين، والتي "تشكّل إضافة ذات شأن إلى المنجز الشعري العربي الحديث".
اضطُرّ نوري الجرّاح إلى مغادرة بلده، سورية، مطلع الثمانينيات، بسبب القمع السياسي والثقافي الذي فرضه نظام الأسد، حيث استقرّ عام 1986 في لندن، منفاه الاختياريّ، بعد سنواتٍ قضاها بين بيروت ونيقوسيا. تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، مثل الإسبانية، والفارسية، واليونانية، والتركية، والإيطالية، والإنكليزية، والفرنسية التي صدرت له فيها ستّ مجموعات. وساهم في تأسيس وتحرير العديد من المجلّات الأدبية والثقافية، مثل "الناقد" و"الجديد" في لندن، كما حقّق وحرّر العديد من النصوص في أدب الرحلة، الذي يُشرف على واحدة من أبرز المؤسّسات العربية اهتماماً بإحيائه، وهو "المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق".
يُذكَر أن تجربة نوري الجرّاح شكّلت موضوعاً لعدد من الدراسات والكتب النقدية، من بينها "أمير نائم وحملة تنتظر" (مختارات ودراسة) لعلي بدر (بيروت، 2005) و"القصيدة المعلّقة: في شعر نوري الجرّاح" لمفيد نجم (ميلانو، 2018)، و"النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح" لأيمن باي (بيروت، 2018)، و"ما الذي يحدث في حدائق هاملت؟" لعبد القادر الجموسي (ميلانو، 2019)، و"شعرية البقع الأرجوانية" لمحمد صابر عبيد عمان (2020).