ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت النسخة العربية من كتاب "الدروع البشرية: تاريخ بشر على خط النار"، للباحثين نيف غوردون ونيكولا بيروجيني بترجمة محمود الحرثاني.
يبحث المؤلفان عبر اثنين وعشرين فصلاً ظاهرة التترُّس البشري خلال الحروب بنوعيه الطوعي والإجباري، وبصنفيه السِّلمي والحربي، والمفارقات الدقيقة بين اعتبار "الدروع البشرية" واحدة من الشخصيتين الرئيستين في الحروب، وهما المقاتلون والمدنيون، من عدمه، وكيفية تلاعب بعض الدول المعتدية بخبث بهذا المفهوم قانونيّاً لإباحة قتل المدنيين خلال الحروب.
الكتاب هو الثاني للثلاثي أستاذ حقوق الإنسان وسياسة القانون الإنساني غوردون والمحاضر في العلاقات الدولية بيروجيني تأليفاً، وأستاذ الترجمة والدراسات الثقافية محمود الحرثاني ترجمةً، بعد كتابهم الذي حمل عنوان: "عن حقّ الإنسان في الهيمنة" الصادر عن "المركز العربي" في عام 2018.
يبحث المؤلفان عبر اثنين وعشرين فصلاً ظاهرة التترس البشري خلال الحروب بنوعيه الطوعي والإجباري
وذكر بيان المركز العربي أن كتاب الدروع البشرية فريد في موضوعه، دقيق في سبره التاريخي، إذ يعرض أمثلةً من التترُّس قديماً وحديثاً في الدول والأجناس والأعراق قاطبة.
يستهلّ غوردون وبيروجيني كتابهما، على غرار ما فعلاه في النسخة الإنكليزية، بمقتطف لا يخطئ الأنفُ رائحةَ الطرفة العنصرية فيه، وهو من رواية الكاتب الإيطالي كورتسيو مالابارته "الجلد" (1949). تهزأ الطُّرفة باتخاذ رجال شمال أفريقيا العرب نساءهم وأطفالهم دروعاً بشرية مع غزو الأميركيين بلادَهم ونشرِهم الألغامَ عبر التضاريس، وبتسييرهم راكبين خيلَهم، زوجاتِهم الراجلات أمامهم وليس في الخلف كما كانوا يفعلون، لا لاحترام لهُنّ ولكن بسبب الألغام، ملمِّحاً في هذا إلى أن معاملة هؤلاء نساءهم وأطفالهم بإهانة باتت أكثر سوءاً بعد الغزو الغربي.
كتب مالابارته "الجِلد" منذ ثلاثة أرباع القرن، ولكنْ حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من زوال الاستعمار واندماج دول شمال أفريقيا المستقلة في "أسرة الأمم"، لا تزال استعارة "الرجال العرب ذوي البشرة الداكنة الذين يتخذون من نسائهم وأطفالهم دروعاً بشرية" واسعة الانتشار.
ومنذ أن شُنّت الحرب على الإرهاب، اطّردَ التذرُّع بشخصية الدرع البشري لتبرير العنف الزعاف ضد المدنيين الأبرياء. فالمحللون العسكريون الأميركيون كانوا منهمكين في تقاريرهم خلال هجوم البحرية الأميركية على مجمّع للقاعدة في جنوب اليمن قُتل فيه عشرة نساء وأطفال، بتحديد ما إذا كان الإرهابيون يتّخذون النساء والأطفال دروعاً بشرية أم لا، وكأنهم يمهّدون لتبرير قتل المدنيين.
كتااب دقيق في سبره التاريخي، إذ يعرض أمثلةً من التترُّس قديماً وحديثاً في الدول والأجناس والأعراق قاطبة
المنطق الضمني من النص جليٌّ: لئن لقي أطفالٌ ونساء حتفَهم في الهجوم، فهذا جُرمٌ تعود جريرته على "القاعدة"، لأن مقاتليه اتخذوهم في ما مضى دروعاً بشرية، لكن فات أولئك أن "النساء والأطفال" عاشوا دهراً في المجمّع ولم يتحولوا دروعاً بشرية، بل أُضطروا بعد الهجوم لتحويلهم إلى دروع.
حين أجرى الباحثان بيروجيني وغوردون تحقيقاً عن عبارة "درع بشري" في صحف كبرى ووسائل إعلام، وجدا أن البلاد التي شاعت فيها الاتهامات بالتترس البشري أكثر هي المستعمرات السابقة في الشرق الأوسط وآسيا، كالعراق ولبنان وفلسطين وسورية واليمن وأفغانستان وسريلانكا، وأن الغالبية العظمى من الدروع البشرية هي من أبناء العرب المسلمين، ففي الموصل أكثر من 100 ألف درع بشري، وفي الفلوجة أكثر من 50 ألفاً، أما في الرقة، وإن كان التترس قد حدث فيها بالفعل مع "داعش"، إلّا أن الصحف تصل في المبالغة حدَّ الحديث عن متاهة معقّدة من الدروع البشرية وسط الألغام لمنع قوات التحالف من التقدّم.
معيار الاتهام بالتدرّع
ويورد الكتاب أن اتهام العرب بالتدرّع يتأثر بتغير النظرة التاريخية بشأن مَن يُعَدّ إنساناً ومن لا في ميدان السياسة الدولية، فإثر الإقرار ببشرية العرب بعد الاستعمار، عند اعتبارهم جزءاً من عائلة الأمم، أصبحوا مهيَّئين لأن يكونوا دروعاً بشرية، ولكنْ مع التنصل المتزامن من إنسانيتهم، عندما استمر اعتبارُهم برابرة كالمستعمَرين القدماء.
يفحص كتاب "الدروع البشرية" عمليات الإقرار والتنصل هذه، ويكشف لعبة استدعاء التنميط القانوني للتترُّس من أجل إضعاف الحمايات الممنوحة للمدنيين في مناطق الحرب في الشرق الأوسط، كحرب الجيش الإسرائيلي على غزة في عام 2014 وإطلاقه حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتبرير قتل المدنيين، بالترويج لمقولة أن المدنيين الفلسطينيين يُستخدمون دروعاً بشريةً، ملقيةً اللوم في قتلهم على حركة حماس.
وفي حين كان الكتاب قيد الصدور كانت حرب 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 الإسرائيلية على غزة قد بلغت مستويات عنف غير مسبوق، وذلك مع الترويج للاتهامات بتترّس الفصائل الفلسطينية بالمدنيين، بهدف تبرير الهجمات الشاملة ضدهم، وبخاصة ضدّ من رفض تعليمات الاحتلال الإسرائيلي من أهالي شمال غزة بمغادرة أراضيهم ومنازلهم والانتقال جنوباً، بل حتى مَن رضوا بها أيضاً، فقد تعرّضوا للقصف وهم في طريقهم إلى الجنوب، حيث ادّعت "إسرائيل" أنه سيكون "منطقة آمنة" وسرعان ما اتّضح عدم أمانها، إذ لقي عدّة آلاف من المدنيين حتفهم فيها.
جعل المحتلون الصهاينة الاتهامات بالتترّس البشري أداةً لتبرير قتل المدنيين، من خلال تحميل الغير المسؤولية القانونية عن موتهم، كما جعلوها وسيلة للتطهير العرقي والإبادة.
راشيل.. درع بشري
لم تسلم الأميركية راشيل كوري من عَشَى الألوان في عيون المسؤولين الصهاينة وجدلهم الفارغ وهَذرِهم وهَرْفِهم بما لا يعرفون وإجرامهم المتأصل، فقد حطّت هذه الشابة اليافعة على أرض فلسطين بهدف إنجاز مشروع علمي، ولم تلبث يسيراً حتى انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فذهبت مع شباب "حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني" وشاباتها إلى رفح لمحاولة منع إسرائيل من هدم منازل على الحدود المصرية، فتعرضت هذه الصبية الغضّة لسحق جرافة إسرائيلية أودى بحياتها.
ورغم مدعاة الأسف الشديد على مقتلها، فإن ما استدعى الأسف أكثر اتهامها من المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي في المحكمة بأنها "جعلت نفسها درعاً بشريّاً للدفاع عن أناس مطلوبين"، وأنها بتصديها للجرافة شاركت في عمل قتالي، ومن ثم فقد تم الحكم على الشخص الذي قتلها بالبراءة، وأنه لم ينتهك أي قانون.
فكيف، وبأي منطق اعتُبر قتلُ متطوّع غير مسلح يستخدم أساليب غير عنيفة قانونيّاً؟ وكيف يُعتبَر "درعاً" كالقبائل "البربرية" التي استخدمها الصينيون دروعاً على الحدود التركية - المنغولية، أو كالأسرى الذين كان المغول يقدّمونهم في غزواتهم، أو أسرى المسلمين الذين كان الصليبيون يضعونهم عراةً مكبلين بالسلاسل لتلقّي مقذوفات العدو؟ ألم يكن هؤلاء دروعاً خلافاً لإرادتهم، وفي زمانٍ لم يكن التترس فيه بالأمر غير المألوف؟
صُوِّر "التترّس" بصورة إيجابية في الفيلم الأميركي "أن تقتل عصفوراً محاكياً"، الذي تدور أحداثه حول حياة طفلين ووالدهما المحامي المدافع عن رجل أسود متهم زوراً بالاعتداء على امرأة بيضاء واغتصابها، ويخطر له في الليلة التي تسبق المحاكمة أن بعض جيران المتهم البيض ربما رغبوا في قتل الموقوف، فيقرر البقاء أمام مبنى السجن لحماية موكله بجسده، ويصدق ظنّه فعلاً عند وصول حشد غاضب يطالبه بالتنحّي ليتمكّنوا من قتل السجين، وفجأة يظهر طِفلا المحامي ومعهم صبيٌّ آخر ويتمترسون جميعاً عند مدخل السجن لا يتزحزحون، ما أفشل هجوم مَن كادوا يكونون قتلة.
هذا المشهد يصوّر "درعاً بشريّاً طوعيّاً"، ويعتبره فعلاً مقاوماً للعنف وللأعراف الاجتماعية القمعية، القاضية بفكرة تفوّق البيض في جنوب الولايات المتحدة الأميركية، وتحدّياً للنزعات العسكرية والإمبريالية والعنصرية والتمييز الجنسي والاستغلال الرأسمالي والنهب البيئي، حين يضع أشخاص حيواتهم في مرمى النيران عن طيب خاطر لتعزيز قضية يرون أنها أخلاقية، فبالدفاع عن السجين كان المحامي والأطفال يتّخذون موقفاً ضد العنصرية العميقة المتجذرة في مجتمعهم، ويُعَرُّون هذه العنصرية ويفضحونها.
التدرّع الإجباري
أما الدروع البشرية القسرية، فقد تناول الكتاب بالتحليل زمرة من الأحداث التاريخية حولها، منها ما يتضمن شهادات مُروعة عن عسكرة مدنيي مناطق الصراع، وإجبارهم على التترس، وأسباب اختيارهم دون غيرهم، كما تناول بالشرح والتوضيح أنواعاً مختلفة من التترس تاريخيّاً.
عندما شرع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في استعادة مدينة الرقَّة من تنظيم "داعش"، غدت الصحف الغربية منبراً لا يكلّ في نقل وقائع عمليات "جرجرة داعش المدنيين المرعوبين" في مواجهة الهجمات الشرسة عليه، وبيّنت روايات قلة منهم من الذين استطاعوا الفرار كيف كان المقاتلون المتقهقرون يقتادونهم من مبنى إلى آخر كدروع بشرية لحماية أنفسهم.
بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، طوّر دعاة السلام والمناهضون للاستعمار، مثل المهاتما غاندي، فكرة التترس البشري أداةً للمقاومة السلمية المشروعة، فشهروه سلاحَ سلامٍ في وجه الهشاشة الإنسانية التي كان يمثلها من استخدموه سلاحَ حرب مقيت، كالجيش الألماني الذي كان أثناء احتلاله فرنسا يوثِق وجود شخصيات فرنسية بارزة بالقطارات التي تُقلُّ جنوده لتقيَه من نيران العدو.
كان مقاتلو "داعش" بسَوْقهم الدروع أمامهم يرجون أن تردع قيمتُهم بوصفهم عُزّلاً يحميهم القانونُ الدولي أعداءَهم، أما كوري، فقد أمِلَتْ أن يردع حضورُها ونشطاء آخرون من البيض وحاملو جوازات السفر الغربية "إسرائيل" عن هدم منازل الفلسطينيين، وهذا يشي بأن مصطلح "البشر" المحايد يكتسب الصبغة السياسية إذا ما استُعمل في عبارة "الدرع البشري"، وأن التترُّس بنوعيه الطوعي والقسري يغدو جزءاً أساسيّاً من الهشاشة البشرية.
الدروع بين شخصيتين
يتناول الكاتبان نقاشات حادّة بشأن الدروع البشرية القابعة في منطقة وسط بين شخصيّتي المقاتل وغيره مع بدء الحرب الفرنسية - الألمانية (1871) واستمرّت حتى القرن الحادي والعشرين.
وقد طرحت أسئلة أخلاقية متعلّقة بالظروف التي تسمح بقتل الدروع البشرية وبالمسؤول عن حياتهم، لصعوبة ضبط كل ذلك في إطار القانون الذي لا يحتوي على مفردات تخصّ "المدنيين الناشطين في النزاعات المسلحة"، ولذلك حدث خلط غير مبرَّر بين المقاتلين والدروع البشرية الطوعية، مثل راشيل كوري والنشطاء الذين سافروا إلى العراق إبّانَ حروب الخليج، فالدروع الطوعية هذه في معظمها غير عنيفة ومناهِضة للتسلح، وتتوسل الدفاع عن الضعفاء.
ولفت الكتاب إلى أن أحد أسباب ازدياد تجنيد الدروع البشرية في العقدين الماضيين هو "اختفاء ميدان المعركة"، فالحرب على الإرهاب مثلاً لم تعد في حدود مكانية وإطار زمني واضحين، ما دفع بظاهرة الدروع البشرية إلى الواجهة، فمع تقهقر مسلّحي "داعش" واختبائهم في المناطق الحضرية، كالموصل وكركوك والرقة، تقوّضت القدرة على التمييز بين المقاتلين والمدنيين، ومنحت المعتديَ الشرعية لاستعمال القوة المميتة، وبات مصطلح "الدروع البشرية" مفهوماً قانونيّاً أضفى الشرعية على استخدام العنف ضد الأبرياء.