"كانت المدينة تتشكّل على مهلٍ ككلّ المدن، مجاميعها البشرية تتفاعل وتندمج في مرجلٍ بشريّ يُميّز المجتمع المدينيّ ويصهره ويطوّره، في زمن مفتوح لم تكن فيه حدود ولا استعمار خلّف وراءه كياناتٍ ’وطنيّة‘.."، بهذه المقولة يصف الكاتب والباحث هشام البستاني عمّان في مقدّمة كتابه "مدينتي [المشوّهة] [التي أستيقظ فيها كلّ يوم]" الذي يتشارك في إصداره مع المصوّرة الفوتوغرافية ليندا الخوري.
الكتاب الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" باللغتين العربية والإنكليزية، أقيم حفل إطلاقه عند السابعة من مساء اليوم في "مؤسسة محمد وماهرة أبو غزالة" بالعاصمة الأردنية، عبر حوارٍ أدارته مع المؤلّفيْن المعماريّة حنين النمري.
يعرض الكتاب عبر النصوص والصور الفوتوغرافية لصورة التشوّهات التي تعرَّضت لها مدينة عمّان
يتتبّع البستاني في مقدّمة الكتاب الجماعات التي كانت تشكّل المدينة منذ بداية القرن؛ الشوام الذين امتهنوا التجارة، والشركس الذين عملوا بالزراعة وتربية الأبقار وبعض الحرف، مع عائلات بلقاويّة مسيحيّة ومسلمة (فعمّان ناحية من نواحي البلقاء، وعاصمتها: السّلط)، وأخرى كرديّة، ومن نجد والحجاز، ومن بُخارى، ومن اليمن، ومن فلسطين (قبل أن تُنكَب، مثل عائلات عصفور ومنكو والبلبيسي والبسطامي وملحس)، ومن مناطق أخرى في الشّمال والجنوب والشّرق، بعدما صارت مركزًا للحكم والإدارة.
ويوضح البستاني أنّه "في فترة لاحقة، تداعى هذا التشكّل الهادئ نسبيّاً نتيجة لانفجارات المحيط التي لم تتوقّف، لتنفجر المدينة (سكّانيّاً، وعمرانيّاً).. فتمدّدت أفقيّاً، خصوصاً إلى الغرب، لتقضي على الأراضي الزراعيّة الخصبة والبساتين المحيطة"، حيث يصف البستاني المجتمع العمّانيّ المعاصر بأنه "مجتمعٌ لا يزال في طور ’التشكّل والاختراع‘؛ مفتوحٌ على آفاق التحوّل والتغيّر، مُثقلٌ بالصّراعات والتناقضات والتشوّهات والإمكانات، مختبرٌ يمتزج فيه الجميع كامتزاج قطرات نهرهم البائد حيناً، ويتعرّجون في سيرهم المشترك كتعرّجه بين التلال حينًا آخر".
يعرض الكتاب عبر النصوص والصور الفوتوغرافية صورة التشوّهات التي تعرَّضت لها مدينة عمّان، ويقرأ التحوّلات السريعة وغير المنظمة لموضوع مجموعة صور الخوري التي تستخدم الكاميرا للتوثيق البصري ضمن عناوين تختارها على صلة بدور الفنون في الأماكن العامة. تعتبر الخوري المادة التي تصنعها اليوم تاريخاً بالنسبة إلى الغد، بينما يستدعي هشام البستاني عمّان من ذاكرة طفولته ومرحلة المراهقة التي عاشها هناك. ومن ذاكرة أبعد، هي ذاكرة والده وأعمامه.
يعيد البستاني ترتيب الذاكرة في مشاهد تقرأ زمن التحوّلات المعمارية للمدينة. ويستخدم الكتابة عدسة تصوّر بشكل مركب ماضي المكان وحاضره، بما يشهده الحاضر من التباس أحدثه التشوّه الذي طاول المكان. إذاً، يستلهم البستاني ماضي المكان باستخدام ذاكرته، وعبر مشاهد صنعت علاقته مع عمّان، وقد قاده فقدان الأمكنة والتشوّه الذي داخلها إلى الشعور بالاغتراب والمرار. وتتنوّع النصوص بين السردية والشعرية، إلى جانب نصوص فيها جهد بحثي يستنطق المكان، ويستطلع ما دار فوقه، وما غيَّره، وما جعله مختلفاً لدى أهلهِ.
يذكر أنَّ الكاتب والباحث هشام البستاني من مواليد عمّان 1975، يكتب القصة والشعر والمقالة. صدر له في الأدب "عن الحب والموت" (2008)، و"الفوضى الرتيبة للوجود" (2010)، و"أرى المعنى" (2012)، و"مقدّماتٌ لا بدَّ منها لفناءٍ مؤجّل" (2014)، و"شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء" (2018). وصدر له في الفكر السياسيّ كتاب "الكيانات الوظيفيّة: حدود الممارسة السياسيّة في المنطقة العربيّة ما بعد الاستعمار" (مجلّدان، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2021). كما تُرجمت قصصه ونصوصه الشعريّة إلى لغات عدّة.
أما ليندا الخوري، من مواليد عمّان 1979، فدرست التصوير في جامعة الروح القدس - الكسليك في لبنان. تُدرّب التصوير الفوتوغرافي منذ عام 2005، وأسّست دارة التصوير عام 2007. تعمل الخوري مصوّرة محترفة مختصّة بالتصوير المعماري والداخلي، والتصوير الفني. ولديها عدّة مشاريع منها "حكايا من جبل اللويبدة"، وتعمل على إتمام مشروعها الفوتوغرافي "حكايا من جبال عمان".