تصدّى المُفكر التونسي هشام جعيّط (1937- 2021) لكُبرى قضايا تأريخ إسلام البدايات، الذي يَشمل عصر النبوة وعهد الخلفاء، إلى جانب بوادر تَمصير مناطق "الشرق الأوسط" في العصرين الأولي والوسيط. وكانت سلسلة أعماله التاريخيّة والثقافيّة تجسيدًا لمنهج أطلق عليه اسم: "العقلانيّة المُتفهّمة"، في معارضة منهجيّة للنّزعات الوضعيّة الموغلة في رَيْبِيتها التي كان يعتمدها المستشرقون.
وكانت بداياتُه، في هذا المسلك التاريخي، مع كتاب: "الكوفة، نشأة المدينة الإسلاميّة" (1975)، حيث استقصى مراحل تخطيط هذه المِصْر وما طَرَأ على عمارته من تطوّرات، مع استعراضٍ للوظائف الدينيّة والسياسيّة وحتى التجاريّة التي أدّاها ذلك التخطيط العمراني. وقد فتح جعيّط بهذا العَمل المبتكر طريقًا مستحدثًا في دراسة المعيش اليومي في الإسلام بالاعتماد على المصادر العربية القديمة، بعد تمحيصها وغَربَلة ما فيها من معلومات وأخبار. ثم انبرى بعد ذلك لقضايا أكثر حساسيّة مثل السيرة النبويّة وتاريخية الوحي القرآني، حقولٍ كانت تعتبر، ولقرون مديدة، حكرًا على المُستعربين الغربيين.
ومن أهم ما ميّز كتاباته، تلك الضّربات الموجعة التي وجّهها إلى المستشرقين، الذين كانوا يرفضون أصلاً الاستناد إلى ما كَتبه العرب المسلمون، مُعتبرين أنّه "منحاز" وغير علميّ، حتى لدى خيرة مؤلفينا مثل عبد العزيز الدوري، فكان أن بَزّهم في مَجالهم، وأكّد، في غير مناسبة، أنّ خطابهم يتقنّع بالحُجج العلميّة ويتعاظم بمصطلحات فضفاضة، وما هو في الحقيقة سوى تحاملٍ على رموز الإسلام ومرجعياته وتأكيد للمركزيّة الأوروبية.
خطّ طريقاً مستحدثاً في دراسة المعيش اليومي في الإسلام
ومن بين المعارك الدقيقة التي خاضها تلك المتعلقة بتاريخيّة النص القرآني وعوامل انبجاس دين جديد غيّر تاريخ البشريّة، إذ جَهدت المدرسة الألمانيّة وما جاء بعدها، من تياراتٍ مثل: "القُرآنيين"، وهم باحثون غربيون ينكرون ألوهيّة مصدر النص القرآني ويعايرونه مجرّد نسخٍ للكتب السابقة، وعلى رأسهم وانسبروغ في "دراساته القرآنية" (1977)، واقترحوا فرضيّة كون القرآن نصًّا بشريًّا، "حُرّرَ" بعد أكثر من قرنٍ من وفاة النبي، فكان أن انبرى جعيّط ليفنّد أطروحاتهم، بتعقّب ما صاغَه المستشرقون الألمان، ولاسيما نولدكه وشوالي إلى غاية الأميركية باتريسيا كروان.
ومن ذلك أيضًا نقده لرفض المستشرقين كلَّ ما ورد في كتب السيرة النبوية، جملةً وتفصيلاً، واعتباره منحولاً من وضع القصاص والحكّائين، إلا أنه وبحسٍ نقدي متوازن، ميّز ما يمكن قبوله وما لا يمكن، حسب معايير الإمكان الواقعيّ للأحداث ومنطق العقل الوضعيّ. ولذلك، استهلّ ثلاثيته في "السيرة النبوية: الوحي والنبوة" بنقد جذريّ للمصادر التاريخية التي اعتمدها وتَمحيص ما ورد فيها من عناصر وأخبار.
كما أنه اعتمد على القرآن مصدراً رئيساً لكتابة السيرة باعتبارها الوثيقة الصحيحة الوحيدة الشاهدة على أحداث تلك الفترة، وهو ما يرفضه تعنتًا الغربيون. ومن جهة ثانية، تميّز عن المستشرقين بحمل الهم العربي وقضايا الوطن في كتاباته، فلم يَدرس ظواهره ببرودٍ، كما لو كانت نصوصه منعزلةً عن الواقع التي أنتجها، فقط من أجل التظاهر باستخدام المنهج الفيلولوجي والاقتصار عليه إيهامًا بأن اللغة العربية وحضارتَها قد ماتتا منذ عهودٍ.
هكذا، كان إسهام جعيّط أساسيًّا في قلب النموذج المعرفي الذي ساد من قرون: فقد فَتح الباب للباحثين العرب وأطاح باحتكار الخطاب الاستشرافي لدرس الإسلام وتاريخه، كما ثَبّتَ أساسيات التاريخ الإسلامي أمام موجة النقد العارمة التي شكّكت، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، في كل شيءٍ دون استثناء، بدعوى أن الأحداث المدروسة مَروية فقط من وجهة نظر الرؤية الإسلامية، وهي تعلّة جوفاء لأن البحث عمّا كُتب لدى السريان أو البيزنطيين آنذاك لن يكون لا أوسع إحاطةً ولا أكثر مصداقية. مَجهود جبّار إذا قيس بضراوة الخطاب الاستشراقي الذي حكم بالانتحال على كل ما ورد في المصادر التراثيّة.
كما أن اعتماد جعيّط على التراث الفلسفي-الهيغلي، وعلى التراث الروحي للإسلام ونصه المقدس ورمزه الرئيسي (النبي محمد)، جعله يحتل موقعًا وسطًا بين الرؤية التقليدية التي تحمل عناصر أسطورية وبين الرؤية الاستشراقية الباردة، هذا فضلا عن استعانته بأمّهات نصوص الفكر الكونيّة، مثل أعمال كلود ليفي شتراوس، وفرويد، وماكس فيبر، ودوركهايم، وغيرهم من أجل تجسيد هذه "العقلانية المتفهمة" التي حاول عبرها تأويل الأحداث وإدراك المنطق الخفيّ الذي حكمها.
ولم يكتف بنقد هذه الأطروحات وإظهار تهافتها، بل عاد، فيما يشبه الحفر المعرفيّ، إلى طبقات التمثلات السلبية التي راكمها الغَرب عن القرآن وعن نبيّ الإسلام منذ القرن الحادي عشر للميلاد وصولا إلى عصر الأنوار وما بعده، حيث صاغ المستشرقون، وجلّهم من رجال الدّين المتعصّبين، متخيَّلاً صبّوا فيه كل ما لا يتلاءم مع توجهاتهم، فكانَ بمثابة مكبٍّ لهوسهم من آخَرَ، صَنعوه، ليعارض المثال الغربي، ثم أضافوا إليه كل ألوان التشويه والتحقير، لنَزع كلّ فضيلة عنه.
وهكذا، فإنّ ما صاغه هشام جعيّط لَبنة في مشروع كبير لم يكتَمل بعد: إعادة قراءة الحقبة التأسيسية وما تلاها من الفَترات والمنعطفات من أجل الإضاءة الناقدة على صراعات الماضي وتقلبات الحاضر والآتي، بمنظور "عقلاني متفهم"، طالما افتُقدَ في الدراسات الحالية التي تقلّد، بسخافة، ما يكتبه صغار المستعربين.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس