لنكنْ صَادقين هذه المرّة، نحن لا نملك معلوماتٍ كاملةٍ ودقيقةٍ عن حكايتنا هذه، أو ربّما هي حكاية سقطت منها بعض التفاصيل، فنحن لا نعرف على وجه الدقّة أين كانت تعيش السيّدة باسلة. سمعنا أنّها كانت تَسكن في أحد أحياء باريس، يُقال إنّه في الدائرة رقم 12، ولا نعتقد أنّ جهلَ مثل هذه المعلومة سيؤثّر على حكايتنا بالمُجمل. وحتّى ننتهيَ من هذا الحرج إلى الأبد، فنحن لا نعرف نهايةَ هذه الحكاية، ولا إلى أين رحلت السيّدة باسلة، لكنّنا نعدُكم بأنّنا سنتحرّى الصدق في كلّ ما نعرفه عنها.
يُقال إنّ باسلة البنت التي انتقلت إلى الجامعة توّاً عام 1976، كانت قد فكّرت بأن تقفزَ عن المعرفة العراقية للفنون عبرَ السفر إلى باريس، وتمّ ذلك بدعم من والدتها سَلّامة. لم تكن تلك الرّحلة تحمل أحلاماً متضخّمة كالحصول على شهادة ما، أو التفكير بتعلّم مهنة معيّنة مثلاً، كانت رحلتها تندرج تحت وصفٍ واضح رغم ركاكته "رحلة للبحث والتمتّع". كما لم نعهد أنّ أحداً سافر إلى باريس بهدفٍ غير واضحٍ مثل هدف صاحبتنا، إلّا أنّها كانت تعرف شيئاً واحداً، وهو أنّها ستعود إلى العراق بعد مدّة أقصاها ثلاث سنوات.
حكاية سقطت منها بعض التفاصيل لكنّنا سنتحرّى الصدق فيها
لكنّ ما حدث في عام 1979 عطّل البنت عن العودة، ورغم عدم اكتراثها بالتنجيم وابتعادها عن الالتزام الدّيني، إلّا أنّها استعانت بـ"صلاة الاستخارة" لاتّخاذ قرار مُعقّد مثل قرار العودة إلى العراق بعد أحداث تلك السَّنة.
موسى، عراقي يدرس في باريس وهو من عائلة متديّنة في الأصل، ومن تلك العائلة تعلّم مهاراتٍ عديدة، منها مهارة أخذ الخِيرة، وبحوزتِه كتابٌ صغير الحجم يكاد لا يتجاوز طولُه الأصابع الثلاث، مكتوب بين صفحاته بشكلٍ عشوائي ثلاثة خيارات: "افعل، لا تفعل، مُخيّر". استعانت به باسلة لحسم أمر العودة إلى العراق، خصوصاً أنّها كانت تجتمع به مع ثُلّة من المغتربين في صالة بيته، ليراقبوا أحداث العراق عبر التلفاز.
وتجري العَادة أن يَفتح صاحب المعرفة "كتابَ الخِيرة" ثلاث مرّات بشكلٍ عَشوائي، وأن مجموع النتائج هو ما يحسم القرار. ولكي نبدوَ محترمين، لن نبالغ في سرد الأحداث بعينها، خوفاً من إهدار وقتكم الثمين، فقد أخذنا على عاتقنا أن نمرّر لكم القصّة بشكل سريع.
لذا فتح موسى "كتاب الخِيرة" ثلاث مرّات عام 1979، وكان مجموع النتائج ضدّ قرار العودة، لذا انتظرت باسلة سنة إضافيّة، وطلبَت منه بأن يعاودَ فتح "كتاب الخِيرة" عام 1980 بعد اندلاع الحرب الإيرانية، ثمّ فتح لها الكتاب سنة 1991 ثمّ 1996 ولم تكن النتائج جيّدة قط، ولا بعد أن غلّفت أميركا وجه العراق بـ"الديمقراطية" عام 2003 تغيّرتِ النتائج، ولا في سنة 2014 ولا التي بعدها. يُشاع أنّه فتح الكتاب ثلاث مرّات عام 2022، وكانت تحمل نتائجَ غريبة لم تحدُث مع أيّ أحد من قبل، سجّلت النتائج الثلاث كلمة واحدة "مُخيّر" وهذا يعني أمراً بين أمرين.
قررت العودة إلى بغداد ورفضت ترك مصيرها لتلك الوريقات
لم تستطع السيّدة باسلة الانتظار أكثر، وقرّرت العودة إلى العراق مَهما كانت النتيجة ولن تتردّد في ذلك أبداً، رغم أنّ النتائج التي ظهرت تدعوها لإعادةِ الاستخارة من جديد، لكنّها رَفضت أن تترك مصيرها لتلك الوريقات وعادت إلى بغداد.
يُعتقد أنّ السيّدة باسلة تسكن الآن في "فندق شيراتون" المُطلّ على نهر دجلة، ولم تلتقِ بأحد بعد، أو بالأحرى هي لا تعرف أحداً في بغداد، لقد هاجر أو مات كلّ الذين تعرفهم. فعمرُها 73 عاماً، ولا تملك غير شهادة الإعدادية، لم تتزوّج، ولم يبقَ لها من عائلتها أحد، وهي أيضاً لا تعرف بغداد التي تراها الآن.
وقد تحدّثت لنا عاملةُ الفندق بأنّ السيّدة باسلة شعرت للحظة بأنّها لا تريد أن تتمشّى في شوارع العاصمة، ثم فكّرت بالعودة إلى باريس، وفتحت كتابها الصغير على صفحة ما في وسطه، حدث ذلك حينما كانت تقف قرب النافذة المطلّة على نهر دجلة الحزين.
يؤسفنا أن نخبرَكم، أنّ صديقتنا العاملة في الفندق قد أغلقت باب الغُرفة تاركةً السيّدة باسلة عند النافذة دون أن تعرف ماذا ظهر على تلك الورقة.
* كاتب من العراق