تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته ولا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته. "لستُ شاعراً مقروءاً ويا ليت لي قارئًا فحسب"، يقول الشاعر العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟
- القارئ هو صِلة، يُشبه الوسائط والوسائل: الجسور، الطُرق، السدود، هكذا أفهمه وأتعامل معه، وبقدر ذاك، يسرّني أن يتعاملَ هو مع نصّي بوصفه صِلهً فحسب وفي علاقة تبادليّة، فالفيضانات لا بدّ لها من السدود، بينما السدود أُقيمت خصيصاً للسيول، ولا بدّ للجسور من العابرين وهكذا، وإلّا فلِمِ أُنشئت أصلاً؟ وهذه الصِلة كما يُسمّيها بلانشو "صِلة اللا صِلة". أعتبر أن القارئ هو أهمّ اكتشاف أنجزه المُؤلِّف، كما أن المُؤلِّف هو أهمّ اكتشاف في ما يخصّ القارئ، ولكن اكتشاف القارئ هو أعظم من الأخير، لأنّه هو الأبقى والأشمل، فلولاه لما كُتبت النصوص ولما كان هناك أصلاً أدبٌ. لستُ شاعراً مقروءاً ويا ليت لي قارئا فحسب.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟
- لقد تغيّر مفهوم الناشر، بعد أزمة كورونا، وخصوصاً بعد تقنية "5 جي"؛ أصبح الشاعر أو المُؤلِّف ناشراً ومُصمّماً وموزّعِاً، هكذا، حلّ في مكان الناشر، كما حلّ كِتاب الديجيتال عوض الكتاب الورقيّ. نحن نتعامل مع مفهوم الديجيتال- الصورة، كما مع مفهوم الكود، الإنسان الكود، السلطة الكود والتجارة الكود، إضافة إلى إمكانيّة أن يشتغل المرء حرّاً مع مؤسسات "رمزيّة" مِثل "يوتيوب"، فيتقاضى راتباً على ما ينشره في قناته. فما الذي بقي إذاً من العلاقة مع المؤسسات والأشخاص والسلطة ذاتها؟ فكلّ شيء في تحوّلٍ وتبادلِ أدوار. أعتقد أن النشر الديجيتالي هو ما يحلم به الكاتب في ما يتعلّق بالحرية وعدم التبعية وسهولة التوزيع ومرونته. لكن سوف يتحوّل الناشر كما الكتاب الورقي، إلى يوتوبيا.
■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟
- الكتابة هي تدريب يوميّ أوّلاً، مثل العلاقات الأخرى؛ علاقة المرء بالملبس والمأكل والبيت، فكلّ مُمارسة هي علاقة بالضرورة، إنّها اجتراح للوسائط وللوسائل. والمجلات والمواقع، هي من تلك الوسائط، لكن أتمنّى أن تكون علاقة الشاعر بالنشر على أساس هذا القول: "أُريدُ أن أكون كالعنكبوت التي تستمدّ من بطنها كلّ خيوط عملها. أمّا النحلة فهي بغيضة عندي والعسل نتاج سرقة".
سوف يتحوّل الناشر كما الكتاب الورقي إلى يوتوبيا
■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟
- نعم، أنشر شعري هناك ولكنّني لستُ فعّالاً (وهذا تقصير، ينبغي عدم الوقوع به)، وإذا كنا ندعو إلى الناشر الدّيجيتالي، فالنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يخدم ذلك، بل ويحرّر المُؤلِّف، لكن بشرط المراجعة والتمحيص، بحيث يكون الشاعر هو المُحرّر لنصوصه وفي مراقبة دائميّة لها، فيتناوب على مهن كثيرة حينئذٍ: التحرير، التصحيح، النشر والتصميم. أتابع باهتمام ما ينشر الشعراء، ولستُ مُمتعضاً من كثرة المنشور (مثلما يقول البعض)، بالعكس، دع الآخر ينشر ويستمتع ويسمع آراء الآخرين، أمّا بصدد القول عن الجيّد أو الرديء، فمن هو الفيصل أصلاً؟ التغيير هو الحَكم، وليس مجموعة مُعيّنة من الأشخاص بمن فيهم النُقاد والشعراء؛ فهؤلاء مهما كانت ثقافتهم، فهم ليسوا بالنتيجة خاضعين للتغيير الدراماتيكي إلّا بحمولة مُتفاوتة، وخصوصاً لم ألحظ تغييراً جوهرياً في التأليف وطرق العيش والسياسة والاقتصاد، ما بعد كورونا (خصوصاً في عالمنا العربي). يطمحُ كلُّ مؤلِّفٍ وكلُّ فكرة وتصميم وموديلٍ كما أعتقد، أن يكون التغيير- الزمن هو ميزانه.
■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟
- الشاعر هو قارئ الشعر أوّلاً وهو كاتبه أيضاً، ولكن ثَمّة قرّاء يتابعون الشعر ويبحثون عنه، بينما، هناك مشكلة تكمن في نوع الشعر الذي يُكتب راهناً؛ فهو لا يميل إلى تقديم نفسَه كخطاب، وكفكر شعري؛ فالوردة لديه هي الوردة الجميلة التي هي موجودة في الطبيعة، ولا تتحوّل إلى السوط أو السجن أو الشرّ. قال الشاعر نصر بن أحمد بن نصر البَصري: "إلى الماءِ يسعى مَن يغصّ بلُقمةٍ، فقل أين يسعى مَن يغصّ بماءِ؟"، الماء متحوّل شعريّاً إذاً، وإلّا فكيف يسبّب الماء الجاري الحميم الغصَّ، وهو المعروف بتسهيل البلع؟ ربط الماء بالغصّ، هو، تحريفٌ لوظائفه في الطبيعة، ثمّ إجباره هكذا على الاقتران بالسلطة ووسائلها منعاً ورقابةً وإعاقةً، وهنا الخطاب الشعري المُتجدّد والذي سيجذب قرّاءً كُثرًا إليه على قاعدتي التغيير والتحوّل الّلذين سيكونان جزءاً من بنيات الشعر الحديث.
■ هل توافق على أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟
- يستطيع الشعر المُترجم تجديد اللغة والمفاهيم الشعريّة، فكلّ كتابة بلغة أجنبية (ولا أقصد هنا الكتابة بغير لغة الأم فحسب)، هي كتابة جميلة أو منفيّة. تشملُ الكتابةُ الأجنبيّة، لغةَ الأمّ عندما تخرج على سياقاتها وفلسفتها وجمالياتها. انتقدَ ذات مرّة فالتر بنيامين المترجمين الألمان، بسبب اللغة الألمانية الخالصة التي يستعملونها، مُطالِباً بتهجينها. وكما قال بلانشو: "المترجمون، أولئك الكتّاب النادرون"، فالمترجم يجمع صفتين إليه وهما، الكتابة والنُدرة، بينما الكاتب هو كاتب فحسب وليس بالضرورة نادراً.
■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟
- لنأخذ مثلاً (ليس انحيازاً) ما يسمّى بقصيدة النثر، أُفضّلُ تسميتها بـ "النصّ الشعري"، تماشياً مع استحواذها تماماً على الفكر الشعري أو الشعريّة، بخلاف أنواع الشعر الأخرى. وهو هكذا خطاب شعريّ، يبدو فيه جلّيّاً أثر الخطاب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، من دون تناول رموزه بشكل مباشر أو علنيّ، بمعنى اللجوء إلى التورية الشعريّة أو الإزاحة. لكن ما علاقة قصيدة النثر التي تكتب راهناً بالخطاب الشعري وبالعمارة والرسم والفكر والطبيعة مثلاً؟ إن وجدت هذه، فهي علاقة تقليديّة ترتهن إلى القواعد والأصول. يجب أن نطرح السؤال التالي: كيف لنا أن نكتب أو نفكّر أو نعيش في ما بعد كارثة كورونا أو خدمة "5 جي"؟ مثلاً، يدور الحديث عن الخرسانة المرنة أكثر مرونة بـ500 مرّة من تلك التقليدية، إذاً قد تغيّر مفهوم الأعمدة والبناء والنوافذ والأبواب، ولكن ما تزال "قصيدة النثر"، وللأسف مستندة إلى المفهوم القديم للنوافذ مثلاً وهو الحرية حصرياً، بينما قال الشاعر كفافيس في قصيدة "النوافذ": "ربّما سيكون النورُ عذاباً جديداً". ومثلما قال هايدغر "كلمات جديدة في ميتافيريقيا قديمة"، بينما المطلوب (كما أظنُّ)، هو وجود جديد، أو أشكالٌ مغايرة من وجود جديد، هذا هو طموح الأدب والسياسة والاقتصاد والمُمارسات الإنسانيّة ما بعد كورونا.
■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟
- الشاعر العراقي حسين مردان، لماذا؟ ونحن بصدد الكتابة الجديدة أو"النص الشعري- الشذري"، كان يقول: "إنّ تحطيم القافيّة في الشعر الحديث، لم يستطع إنقاذ الشعر من الصمغ الذي يغرق فيه، كما أنّ تَجزئة التفاعيل وتقطيعها- ولو أنّه قفز بالشعر الحديث قفزة جبّارة إلى الأمام- لم يستطع كذلك أن يبتر أو يقتلع السلاء من أغصانه الخضر... وأودّ أن أصرّح هنا، أنّ أغلب الشعراء العرب بل جميعهم بلا استثناء لم يُتقنوا عملية استغلال الكلمة وتفريغها، وإنّما يمارسون التعبير بواسطتها باعتبارها وسيلة من وسائل الإيضاح أو باعتبارها - تجسيداً - لإحساس أو حادثة أو لجزء من منظرٍ، فهي عندهم مطبوعة للطبيعة وللشعور وعن طريق لصق هذه الصور بعضها ببعض بصورة متقنة يتوصّلون إلى تجسيم المنظر العام لما يريدون التعبير عنه". وهذا ما عنيناه سابقاً، بأنّ الشعر الراهن (للأسف)، ينظر إلى الوردة كوردة فحسب؛ إيجابيّة في الطبيعة كمنظر، ولا ينظر إليها كوردة سامّة أيضاً.
■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟
- الشعر فنّ متحوّل أكثر من الفنون الأخرى، ويستطيع تمثّلها، بل ويطوّر بها. والشعر أيضاً (كتأليف)، هو شكل موجز ومختصر، ولكنّه ذو وظيفة هائلة، ما جعل التقنية تحاكيه في إنتاج الموديلات، كالهاتف الذكي؛ شكله موجز ومكثّف الوظائف كالشعر، وهيهات أن تحاكي التقنيّة السرد والروايات، بسبب أحجامها الكبيرة (المُكلفة اقتصادية لها). ردّة فعل الشعر على الأحداث سريعة ومُوجزة وفي الصميم، مثل ردّة التقنية واستجابة الهاتف الذكيّ السريعة، وهو، على هذا النحو، يستوعب الوجود كلّه ولا ينقصه هنا لا الفكر الشعري ولا الخبرة: يستطيع الشعر استيعاب الكوارث والأوبئة والسياسة والاقتصاد والكتابة عنها بمفهوم شعري، فلم يعد الماء حسيّاً باطنيّاً فحسب، بل هو الماء الاقتصادي كذلك، يَروي المزروعات بواسطة التقنية وهي اقتصاديّة أيضاً، فمتى يجمع الشعر لديه، الماءَ الحسيّ والماءَ الاقتصادي معاً مؤآخياً في ما بينهما؟ ذلك ما أحاولُ التأليفَ فيه شعراً، وما أريده للشعر، سيّما وأنّ الشاعر كائنٌ متحوّل في التأليف وفي الصفات.
بطاقة
كاتب وفنان تشكيلي عراقي مقيم في هولندا. صدر كتابه الشعري الأوّل في 2008، وتضمّن أربعة كتب شعرية: "إبقي ساهرةً أيّتها الزينة"، و"مرحباً أيّها الطريق يا حلّاج الوعورة"، و"ساعي الموجة"، و"معاً نقلد الوردة مداها". وفي 2018 صدر له كتاب "كالزحف كالنذير، مُهرّج في شكواي"، وآخر منشوراته "لا تعبُر الفجرَ هامشيّاً" (2021). كما صدرت له أربعة كتب شعرية باللغة الهولندية بين 2002 و2007.