تُعد رحلة الأكاديمي والكاهن البريطاني هنري موندريل (1665 - 1701) من حلب إلى القدس في العام 1697، واحدة من أيقونات الرحلات الغربية في بلاد الشام، خلال فترة من أحلك الفترات التاريخية التي مرت بها السلطنة العثمانية، وانعكست على جميع المناطق التابعة لها، ومن ضمنها سورية الكبرى. حظيت هذه الرحلة، بسبب الأوصاف الذكية والمسهبة التي قدمها موندريل للكثير من الأوابد الأثرية والأحوال الاجتماعية التي كان يعيشها أبناء بلاد الشام في ذلك الوقت، باهتمام كبير، منذ صدروها بالإنكليزية مطلع القرن الثامن عشر، وطُبعت عشرات المرات، ودرسها الكثير من البحّاثة، آخرهم الدكتور أحمد الإيبش، الذي قدّم لها ترجمة ممتازة، وشروحاً إضافية أغنت النص الأصلي.
واللافت أن موندريل، على منوال الكثير من الرحالة الغربيين، يسمي المسلمين السوريين بالأتراك، علماً أن هذه التسمية بقيت متداولة حتى عهد الرحالة السويسري الشهير جون لويس بوركهاردت بعد أكثر من مئة عام، إلى أن بدأت تتغير اعتباراً من العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تبلور مفاهيم القوميات. عمل موندريل كاهناً لـ"شركة المشرق" البريطانية التي كانت تتخذ من حلب مقراً لها، بسبب موقعها التجاري المتميز، وهو من مواليد كومبتون باسيت، بالقرب من كالن عام 1665. التحق بكلية إكستر في أكسفورد عام 1682 وحصل على البكالوريوس ثم في عام 1688 على درجة الماجستير. وعند تخرجه جرى تعيينه زميلًا للكلية، حيث بقي حتى عام 1689. وقبل انتقاله إلى برومبتون كينت، بين عامي 1689 و1695 جرى تعيينه كاهنًا من قبل أسقف روشيستر، توماس سبرات. وكان عمه السير تشارلز هيدجز، واحداً من وزراء خارجية الملكة آن، وعمه الآخر ويليام هيدجز مدير بنك إنكلترا، وتحت إدارته مصنع "شركة المشرق"، وهو من ساهم في تعيين موندريل عام 1695 كاهناً لهذه الشركة.
كان مجتمع "شركة المشرق" في حلب يتكون من أربعين رجلاً فقط، يعيشون في عزلة رهبانية، لا يختلطون بأهل المنطقة إلا للضرورة القصوى، وقد غادر برفقة خمسة عشر رجلاً من زملائه في رحلة حج إلى الأراضي المقدسة في عيد الفصح عام 1697 دون وقائعها يوماً بيوم، وهي الرحلة التي نحن بصددها.
في مقالنا هذا سنتناول الجزء الذي يتعلق بالطريق من حلب إلى طرطوس، حيث تُعد هذه الرحلة مصدراً شبه وحيد لأحوال تلك المنطقة التي لا يقصدها الرحالة عادة، بل يلجؤون إلى الطريق الداخلي، عبر حماة، وحمص ودمشق بسبب سيطرة الحكومة العثمانية عليه، وخشية من قطّاع الطرق.
من حلب إلى جسر الشغور
غادر موندريل وصحبه مدينة حلب في يوم الجمعة 26 شباط/ فبراير 1697، وقضوا ليلتهم في خان العسل على مسافة فرسخ ونصف الفرسخ غربي المدينة، ويقول إن السفر في هذه البلاد لا يوفر للمسافر، كما هو الحال في إنكلترا، نزلاً ليبيت فيها، وأفضل ما يمكن العثور عليه هو ظل الخيمة، حين يسمح الطقس بذلك، أو بعض الأبنية العامة التي يسميها الأتراك (السوريون) خانات. ويقدم رحالتنا وصفاً لهذه الخانات بقوله: " في بعض الأحيان يمكن أن نجدها في المدن والقرى، وعلى الطرق الرئيسية، موزعة على مسافات مناسبة. بُنيت هذه الخانات على شكل رواق حول فناء مربع من ثمانين إلى ستين قدماً، تبعاً لإمكانيات أو كرم واقف هذا الخان، وهو مكان متاح لأي مسافر مقابل مبلغ زهيد يعطيه لمن يقوم على خدمته، وفي غالب الأحيان لا يدفع المسافر شيئاً".
في صباح السبت انطلق موندريل وصحبه باكراً باتجاه الغرب، ليصلوا بعد ساعة ونصف إلى قرية أورِم التي قال إنها قرية قديمة لا يوجد فيها شيء جدير بالانتباه سوى أنقاض كنيسة صغيرة. ومن أورم يتوجه إلى قرية كفر حلب ثم أسيون، حيث دخلوا سهول كفتين التي يصفها بقوله: "سهول كفتين متسعة تمتد نحو الجنوب بأبعد من مدى النظر، وهي ذات مزروعات مثمرة، وحين نزلنا أول مرة في هذه السهول استطعنا أن نعدد أربعاً وعشرين قرية يمكن رؤيتها. تربة هذه السهول حمراء وهشة وذات ثقوب، ومن الصعب رؤية الحجارة فيها، وتمتد على مسافة أميال من جانبها الغربي تلال تنكشف عن صخور عالية من دون تربة أو أثر للمزروعات".
وبعد أن يصف قرية كفتين؛ يتابع سفره باتجاه قرية أرمناز، في ريف إدلب الحالية، في طريق يزخر بالمزروعات والزيتون والعنب، إلى أن يصل وصحبه إلى سهل الروج، ومنه إلى بحيرة الروج، حيث يدفعون الرسم الأول. وبعد سير في مناطق جميلة يصلون إلى بلدة الشغور التي يصفها بأنها "مدينة كبيرة لا بأس بها، واقعة على نهر العاصي، وفيها جسر به ثلاث عشرة قنطرة، حيث أن النهر في هذه المنطقة عريض جداً، وبسبب سرعة جريانه فإنه يدير نواعير كبيرة صنعت لرفع المياه"، ولكنه ينتقد نظافة الماء وأسماك هذا الجانب من النهر.
وفي مدينة (جسر) الشغور أقام رحالتنا وصحبه في خان من بناء أحد وراء عائلة الكوبرلي الشهيرة، التي ظهر منها أقوى الصدور العظام في السلطنة، ووجد أن أنه خان غني بسبب الأوقاف الدارة عليه، حيث خصص لكل مسافر حصة كافية من الخبز والمرق واللحم. ويشير إلى وجود عدد كبير من الحجاج الأتراك؛ كانوا في طريقهم إلى مكة المكرمة.
طريق جميل وموحش
من الشغور توجه موندريل غرباً في أودية وطرق وعرة جداً إلى أن وصول إلى قرية بداما، وبعدها بساعتين دخل إلى ريف جبلي مشجر تنتهي فيه حدود ولاية حلب لتبدأ حدود ولاية طرابلس الشام، حيث كانت اللاذقية تتبع لها في ذلك الوقت.
ويستطرد رحالتنا في وصف الطريق الذي يقوده إلى جبال اللاذقية، حيث كانت الأمطار غزيرة، وهو ما منعهم من الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة، إلى أن وصلوا إلى مزار قريب من قرية الشلفاطية، كانوا يأملون بأن يُسمح لهم بالمبيت داخله من دون أن يتمكنوا من ذلك. ويناقش في هذا الموضع من الرحلة قضايا تتعلق بالعقيدة العلوية، كون ذلك المزار يخص أحد شيوخ تلك الطائفة.
اللاذقية الناهضة
في اليوم التالي، وكان يصادف الرابع من آذار/ مارس، تحسن الطقس قليلاً، وبات بالإمكان تجاوز النهر نحو مدينة اللاذقية التي يصفها بقوله: "تقع في منبسط مثمر قرب البحر، وهي مدينة بناها الملك المقدوني سلوقس نيكاتور على شرف والدته لاوديسيا. كانت قديماً مكاناً فخماً، ولكن بسبب النكبة التي حلت بهذه البلاد؛ فقد انحطت إلى حالة وضيعة جداً وبقيت كذلك سنوات طويلة، ولكنها في السنوات الأخيرة تشجعت لترفع رأسها من جديد، وأعيد بناؤها وأصبحت من أكثر المدن ازدهاراً على الساحل، بفضل قبلان آغا الذي وضعها على طريق التجارة وأحيا ذكرها، وهو تاجر ذو ثروة طائلة، وسلطة في هذه البلاد".
ويلفت نظر موندريل وجود ناووسين قديمين من الحجر جرى العبث بهما طمعاً بالعثور على كنز، كما يقول. مشيراً إلى وجود ثيران وأكاليل منحوتة تزينهما، وكانت عليهما سابقاً كتابات محفورة، ولكنها متآكلة لا يستطيع المرء تمييز حروفها.
جبلة والسلطان إبراهيم
بعد معاناة من الطريق والسيول الغزيرة التي تهدد حياة العابرين، وصل رحالتنا وصحبه إلى مدينة جبلة، الواقعة إلى جوار البحر، و"ذات السهل الواسع المثمر الممتد حولها". ويقول في وصفها: "مظهرها رديء في الوقت الحالي، بالرغم من شهرتها. وآثارها تدل على مجدها الغابر.. ومن الأشياء الجديرة بالانتباه فيها حالياً جامعها وبيت الصدقات التابع له، وهما من بناء السلطان إبراهيم المدفون في المبنى الأول، كما يزعمون. ويحظى السلطان إبراهيم باحترام كبير هنا، وضريحه عبارة عن صندوق خشبي كبير مركب فوق قبره، ومغطى بسجادة تمتد وتتدلى على الأرض من جميع الجوانب، ومزين بمسابح خشبية كثيرة تتدلى عليه. وثمة مباخر عديدة، وشمعدانات للمنابر، وفرش كنسي جرى اغتنامه من غزو قبرص. وفي المدينة حمّام جميل قريب من المسجد، كما توجد بيارة صغيرة من أشجار البرتقال، اعتاد المسافرون أن ينصبوا خيامهم تحت ظلالها في الصيف".
ويروي موندريل نقلاً عن العوام قصة السلطان إبراهيم الذي زهد في الحكم، وقرر أن يموت فقيراً في هذه المدينة، ورافقوه إلى الكهف الذي كان يتعّبد به، فوجده كهفاً عادياً مليئاً بالقبور والأضرحة، ومصلى يقولون إنه مصلى السلطان إبراهيم. ويمتدح رحالتنا موقع جبلة الملاحي، ويشير إلى مرفأها القديم، ويقول إنه رأى رصيفاً بالقرب من المكان، وأعمدة كبيرة من الغرانيت كان بعضها بجانب الماء، وبعضها غطس فيها، وأعمدة أخرى في حديقة قريبة مع تيجان من الرخام الأبيض منحوتة بدقة تشهد على الازدهار القديم للمدينة.
مدرج جبلة
ويصف موندريل مدرج جبلة الأثري بقوله: "أهم أثر قديم في جبلة هو مدرجها العظيم، عند البوابة الشمالية للمدينة. ما تبقى من البناء لا يتجاوز ارتفاعه العشرين قدماً، وله جانب منبسط نسفه الأتراك بالبارود، وأخذوا كميات كبيرة من رخامه لتزيين حمامهم ومسجدهم المذكور سابقاً، كما قيل لنا. وما تبقى من هذا المدرج نصف الدائري، صف لسبع عشرة نافذة مستديرة فوق الأرض. وقد رُفعت في جميع الاتجاهات أعمدة كبيرة ضخمة على قواعد عالية مقابل الجدار، وذلك من أجل تقوية البناء وتزيينه، ولكن معظم هذه الدعامات محطمة الآن. وفي الداخل ثمة ساحة كبيرة، لم أستطع أخذ قياساتها بشكل صحيح، وذلك بسبب البيوت المبنية فيها. وعلى الجانب الغربي لا تزال مقاعد المشاهدين كاملة".
بانياس والمرقب
من جبلة تبع موندريل وصحبه الشاطئ في صباح السبت 6 آذار/ مارس أملاً في أن يكون الطقس أفضل مما كان عليه سابقاً. وبعد ساعتين وصلوا إلى ضفة نهر عميق يسميه الأتراك (السوريون) نهر الملك، رأوا على جانبيه أكوام الآثار وغيرها من بقايا الأبنية الضخمة. وعلى مسافة نصف فرسخ اجتازوا نهراً آخر باسم جوبر، شاهدوا عليه بقايا جسر من الحجر حسن البناء. ورأوا على الجانب الثاني من النهر في الأرض المزروعة، برجاً كبيراً مربعاً تحيط به بقايا أثرية من أبنية قديمة. ولاحظ وجود أبنية تاريخية قديمة من قلاع ومنازل تشير إلى حالة الإهمال الكبيرة التي يعانيها هذا البلد كما يقول. وبعد أن يمر ببانياس يشير إلى قلعة المرقب التي كان لها شأن كبير فيما مضى، ويقول إنها مبنية على شكل مثلث متساوي الأضلاع، تشير إحدى زواياه نحو البحر. ويضيف أنه مهما كانت قيمة هذا الأثر قديماً، فهو الآن مجرد سكن للريفيين الفقراء. بعد ذلك، يمرون بقرية ضهر صفرا التي يسكنها موارنة فقط، ثم قرية مرقية التي يسكنها أتراك (موندريل يقصد مسلمين سوريين) ومسيحيين. وفي هذه القرية يبيت وصحبه ليلتهم قبل أن يتحركوا في يوم الأحد 7 آذار/ مارس إلى نهر حسين، ويعبروا جسره الخشبي، ومنه إلى طرطوس.
وصف طرطوس
يخطئ موندريل في ذكر الاسم القديم للمدينة؛ إذ يقول إنه أريثوزا، والصحيح أنترادوس، لأن أريثوزا هي الرستن على ضفة العاصي. ويقول إنها، أي طرطوس، كانت مركز أسقفية، ولها حصانة كبيرة أيام "الحروب المقدسة" (الصليبية).
وفي وصف المدينة يكتب: "تقع على ساحل البحر، ولها سهل واسع ممتد حولها، وما بقي من بنائها القديم قلعة كبيرة جداً لا تزال مأهولة، يغسلها البحر في جانب منها. وهي محصنة من طرفها الآخر بجدار مزدوج من الرخام الخشن، مبني على الطريقة الريفية، وبين الجدارين ثمة خندق، كما يوجد خندق آخر يحيط بالجدار الخارجي. يمكن الدخول إلى القلعة من جانبها الشمالي، عبر جسر قابل للسحب يوصل إلى غرفة واسعة. القسم الأكبر منها غير مغطى، ولكنها كانت قديماً مغطاة بأقواس ذات مظهر حسن، وفي القلعة كنيسة خاصة بها، ويمكن الاستدلال على وجود الكنيسة القديمة من خلال الرموز الباقية على الجدران، كحمامة نازلة فوق المكان الذي كان فيه المذبح، وفي مكان آخر هناك رمز الحمل المقدس". ويشير موندريل إلى أن المدينة القديمة مبنية حول القلعة، من الجانب الجنوبي الشرقي، وكان لها جدار جيد وخندق يحيط بها، لا يزال قسم كبير منه باقياً، ولكن الأبنية الأخرى لم يبق منها شيء، عدا الكنيسة على بعد حوالي مئتي متر شرقي القلعة. ويقول إن طول الكنيسة مائة وثلاثون قدماً، وعرضها ثلاث وتسعون، وارتفاعها واحدة وستون قدماً. أما جدرانها وأقواسها وأعمدتها فهي من الرخام غير الطبيعي، وجميعها ما تزال كاملة، بحيث إن القليل من المال يمكن أن يعيدها إلى وضعها السابق من جديد.
من طرطوس أرسل موندريل وصحبه أمتعتهم إلى طرابلس (اللبنانية)، قبل أن يتحركوا، ووصلوا بعد ربع ساعة من طرطوس إلى ضفة نهر جاف يبدو أنه كان عريضاً بدلالة آثار جسر حجري، وبعد مسافة نصف فرسخ وجدوا أنفسهم قبالة جزيرة صغيرة، تبعد فرسخاً عن اليابسة. وهي جزيرة أرواد الشهيرة. وبعد أن تركوا الآثار المقابلة للجزيرة، دخلوا سهلاً فسيحاً وعريضاً للغاية، يقع بين البحر والجبل، ويمتد طولاً حتى يبلغ طرابلس، وقد احتاجوا لعبوره سبع ساعات.