بهذا العنوان نقلتْ جريدة "الصّباح" العراقيّة أنباء رحيل المترجم زاهد، وكان لها السبق في ذلك، بمقال أثار جدلًا واسعًا وكان له صدى كبير. وتناولتْ صحف ومواقع كثيرة، عراقيّة وعربيّة، الخبرَ بمقالات قصيرة أو طويلة. فقد أحدث خبر رحيله ضجّة كبيرة في الأوساط الأدبيّة. ثمة صحف نقلت الخبر الحزين على عجل، وأُخرى وثّقتْ، بشيء من التفصيل، مسيرته العِلمية والأدبية، وذكرتْ بعضًا من عناوين مجموعاته القصصيّة وترجماته الكثيرة. لمْ تظهر صورته في الصّحف بهذا الكمّ الهائل كما حدث ذلك اليوم. وتناقل كثيرٌ من الأدباء والقرّاء الخبر في وسائل التّواصل الاجتماعي. بل وعزّى وزير الثّقافة العراقيّة، في صفحته على فيسبوك، وفي موقع الوزارة أيضًا، أهل الفقيد (الّذين لم يطّلعوا قطّ على المنشورَين ولمْ يصلهم خبر عنهما وهم في قريتهم البعيدة)، وعزّى أيضًا قرّاءه، مُشيرًا إلى حجم الخسارة التي طالت الثقافة العراقيّة.
وانتشرت صورة زاهد وخبره بنحو كبير، لدرجة أنّه كان - ولا شكّ - يتقلّب في قبره غيظًا (هذا إنْ كان فعلًا قد مات)، وإنْ كان حيًّا فأحسبه سيرسل الجميع إلى الجحيم! فهو الّذي نأى بنفسه عن الأضواء وعن هذا الوسط الثّقافي، لأسباب دار حولها الكثير من التكهّنات. وحينما نال زاهد الشّهرة الواسعة، بعد عدد كبير من المجموعات القصصيّة والترجمات، صار يتهرّب من المهرجانات ويرفض الحوارات الصحفية رفضًا قاطعًا، حتّى تشكّلتْ حول اسمه هالة من السّحر والغموض. وممّا زاد من هذا السّحر والغموض هو أنّ ترجماته وكتاباته كانتْ تحمل اسم "زاهد" فقط، دون لقب أو إضافة أُخرى.
وكما عهدناه أبدًا، عالم الصّحافة والثّقافة هذا، الّذي لا ينال فيه الأديب الحيّ من الاهتمام إلّا النزر القليل، فهو يصحو فجأة ويتعامل مع موته وكأنّه لحظة النّضوج الأدبيّ الأسمى وذروة الإبداع، وكأنّ كلّ ما قبل تلك اللحظة ليس إلا سلّمًا للوصول إليها. فتُقام باسمه المهرجانات والندوات، وتسمّى باسمه الجوائز والساحات والشّوارع، وكأنه كان ميْتًا فعاد إلى الحياة، لا العكس، فتراه حيًّا أكثر من أيّ وقت مضى. وربّما هذا بالضّبط ما دفع زاهدًا إلى أنْ يكون زاهدًا في هذا الوسط، لكنّه في النّهاية لمْ يسلمْ من "الكليشة"، فلاقى المصير نفسه!
على أنّ ما يُعرف عن زاهد هو نتف من أخبارٍ متفرّقة، منها الغثّ ومنها السّمين، وقد حاول بعض الصحافييّن جمْعَ خيوطها. وزعموا أنّه ابتعد عن الأضواء لأنّ الصّحافة والنقد تجاهلا بواكير أعماله، فكرّس جهده من أجل إدهاش الجميع بقصصه، ثمّ قرّر تَرْكَهم يمورون في أخيلتهم، ولمْ يمنحهم معلومة عنه أو لقاءً يُنير طريقهم. في حين زعم آخرون أنّه إنما اتّخذ هذه الطّريقة لا من أجل الابتعاد عن الأضواء، بل هي وسيلة من أجل شغل الأضواء به أكثر. واختلط الحابل بالنابل وضاعت الحقيقة وسط هذه التكهّنات.
وقيل إنّ زاهدًا المسكين كان زاهدًا بحقّ على جميع الأصعدة، وكان قد كرّس حياته بأكملها للأدب، فلمْ يتزوّج ولمْ يشكّل أسرةً، ولم يعرف للثراء بابًا. وبعد سني شبابه التي تقلّب فيها بين أحضان العشيقات، وسافر وغامر وخاض تجارب كثيرة، انصرف عن معظم متع الحياة، وانكبّ على الترجمة والقراءة والكتابة. فكان يُمضي نهاره وليله في العمل، حتّى سلبته القواميس والكلمات عافيته، وأنهكته الكتب والشّاشات والسّجائر، فصار هزيلًا شاحب السّحنة محدودب الظهر.
كان دائمًا يقول لي إنّ حياته بأكملها مدوّنة في قصصه
وقيل إنّه كان يُكافئ نفسه، كلّ أسبوع، بليلة سهر طويلة، ينتقم فيها من الجهد الذي ينخر جسده، ويفرّغ فيها دماغه من كلّ شيء. وكان يمضي تلك اللّيالي برفقة ندماء غرباء يتعرّف إليهم على ضفاف دجلة، فتؤلّف بين قلوبهم زجاجة عرق أو بضع زجاجات بيرة، ويقتسمون معها المازة والحكايات والكركرات، فوق العشب النّاعم. وكان زاهد يسحرهم بالحكايات والمغامرات، وبقصص عشقه القديمة، يمزج معها بعضًا من قصصه، أو يروي قصصًا هي في طور التأليف، فكان المستمعون أشبه بحقل تجارب لحكاياته. وكان يستمع إلى حكاياتهم أيضًا، ويستلهم منها الأحداث والشَّخصيات لقصصه.
ولمْ يقدّم زاهد نفسه قطّ على أنه القاصّ والمترجم الشّهير، ولم يتعرّف عليه أيّ منهم، إذ كان بعيدًا عن الأضواء، وفي منأى عن الأماكن الّتي يلتقي فيها المثقّفون، حيث يثرثرون ويدخّنون ويحتسون قهوتهم. لذا فقد كان يمضي مع هؤلاء الغرباء أعذب أوقاته، وكانوا همُ يستمتعون للغاية برفقته، وصاروا يلقّبونه بـ"حكّاء دجلة".
"مات وحيدًا في عزلته الباردة" هكذا كانت تبدأ إحدى قصصه. واتّخذتها معظم الصّحف والمنشورات عنواناً. وتعاملوا معها وكأنها نبوءة. أوليس هذا هو عمل النُّقاد عادة؟ قد يكون الحديث عن نبوءات الشعراء والأدباء والفنانين طويلًا، يملأ كتبًا تنوء بحملها المكتبات. "أوَلمْ يقلْ بول ريكور إنّ القص سبق الحياة" كتب أحد الصحافيّين في مقاله: "ها هي القصص تنبئنا مُجدّدًا بمصائر الخلق". ما أكثر النبوءات والأنبياء في أيّامنا هذه!
على أنّ ما تجاهله الجميع، برأيي، هو فحوى قصّة زاهد تلك، وربطها ببعض ما عُرف عنه. وإذا ما أردنا أن نسير على نهج أصحاب النّبوءات، فإنّ أحداث القصّة أقرب إلى النبوءة، في حال زاهد، من جملة مطلعها التي تمسّكوا بها، أي (وحيدًا مات، في عزلته الباردة). ولكنْ، أكانتْ نبوءة بالفعل؟
وتروي قصته حكاية الكاتب الشّاب ناجي الزهراني، الذي زاول كتابة القصّة والرّواية، لكنّ نجاحه كان دون جهوده وتطلّعاته، إذ لمْ ينل من الشّهرة ما كان يأمله. ومع أنّ بعض النّقاد أشادوا بجمالية أسلوبه وأثنوا على نتاجه الأدبيّ، وصدرت عنه بعض المقالات في الصّحف، إلّا أنها لمْ ترضِ طموحاته. وكان حبّه للشهرة كبيرًا للغاية، إذ هي بالنسبة له معيار النّجاح. وكان المسكين شديد الولع بالكتابة، لدرجة أنّها أصبحتْ بالنّسبة إليه جوهر حياته ومعناها، وغايته التي بدونها تنعدم الحياة.
وكان أصدقاؤه والمقرّبون إليه على اطّلاع بهواجسه، بل كانوا قلقين بشأنه، على الأخص صديقه الصّحافي، حسن العظيم. وكان الصّحافي كثير الاختلاف على سكنه، وعادةً ما يبات ليلته عنده، بعد سهرة أُنس وشراب، فكانتْ لديه نسخة من مفاتيح الشّقة. ومع أنّ ناجي كان شابًّا في الثلاثينيات، إلا أنّه أصبح يرى الطّريق أمامه مقفرةً، ونجمَ إبداعه إلى أفول. وفي لحظة ما اعتزل الحياة الاجتماعية وهجر ليالي بغداد وصحبة الأصدقاء، وأصبح حبيس شقّته لا يخرج منها، لدرجة أنّه إذا ما احتاج لشيء، كعلبة سجائر أو زجاجة ويسكي أو حتّى بعض الخبز والخضار، فإنّه يطلب من صديقه الصحافيّ حسن العظيم أن يجلبها له وقت يأتي إليه. وكان يقضي كلّ وقته، في عزلته تلك، في القراءة والتأمّل وتسجيل الملاحظات والشرب والنّوم. وازدادت كآبته وكبرت حسرته، وازداد معهما قلق حسن عليه، حتّى صار يحدّث بعض الأصدقاء المشتركين بينهما في الأمر، أملًا في إيجاد حلٍّ ما.
يتعامل مع موته وكأنّه لحظة النّضوج الأدبيّ الأسمى
وذات يومٍ شتائيٍّ قارس خطرت في ذهن الزهراني فكرةٌ جهنّميّة، وتوهّجت في عقله وملأت روحه بالنّور والحبور. ولمْ يُعدِ التفكير بها ولو للحظة، بل صمّم على وضعها موضع التّنفيذ.
وفي مساء ذلك اليوم اتّصل حسن العظيم بصديقه، فكان الهاتف مغلقًا. سارع حسن إلى شقة الزهراني، طرق الباب فلا جواب، ثمّ فتحه بنسخته من المفاتيح واقتحم الشقّة وهو ينادي: "ناجي، ناجي!". وكانتِ الشّقة خالية، يُخيّم عليها صمت كئيب ومخيف. فتّش حسن في الشقّة الصغير، ولكن دون فائدة. وانتبه فجأة إلى زجاجة ويسكي فوق الطّاولة في الصّالة، أُسندت إليها ورقة مطوية. فتحها حسن، كانتْ بخطّ صديقه الزهراني. اصفرّ وجهه وهو يقرأ ما ورد فيها:
"سئمت 'تباريح' الحياة ومن يعش 'ثلاثين هَمًّا' لا أبًا لك يسأم
لا أعرف، يا حسن، إن كانتِ الحياة قصّة أم القصّة حياة. ولا أعرف أيٌّ منهما تصنع الأُخرى، وأيٌّ منهما تسبق الأُخرى أو تلحقها. ما أعرفه هو أنّني فشلت في كلتيهما. وما أُقدِم عليه، الآن، هو صناعة لحظة حياةٍ ترضيني، وخلق قصّة مدهشة. فما عادت أيٌّ منهما، القصة والحياة، تصنع الأخرى، بل أنا أصنع كلتيهما في آن واحد.
أحبُّك جدًا يا صديقي حسن العظيم، وإن كنت أشعر بالضآلة أمام طولك الشاهق. إرثي لك هو زجاجة الويسكي هذه. أتذكر أين كنّا نتوقّف بالسّيّارة آخر اللّيل، ونحن نحتسي زجاجات البيرة، ونتأمّل دجلة وأضواء بغداد النائمة في سكونها وهي تنعكس في مياهه؟
هناك ستجدني.
سامحني على ما أفعله، يومًا ما ستدرك السبب".
ناجي.
للحظات شعَر حسن بقلبه ينعصر بقوّة، وبساقيْه ترتخيان. لكنّه سرعان ما تمالك نفسه، وهرول خارجًا من الشّقة على الفور. أدرك ما يعنيه صديقه، فاتّجه بسيّارته سريعًا إلى جسر السّنك. وعند وصوله إلى منتصف الجسر، ركَن السيّارة وترجّل على عجَل. على سياج الجسر وجَد حسن قميص ناجي وبنطلونه ومعطفه تتراقص كلّها في رياح الليل الباردة، ثمّ رأى على الأرض حذاءه. أصاب الصّحافي الذهول، أمسك بحديد السّياج البارد بكلتا يديه وانطلقت من حنجرته صرختان شقَّتا سكون ليل بغداد: ناجي .. ناجي! رقصتِ الأضواء في مياه دجلة، ولكن لا جواب.
وامتدّتْ صرخة حسن الأليمة إلى شاشة الكمبيوتر، وهو يكتب مقالةً ينعى بها صديقه. كان يشعر بألم قاسٍ وحزن عميق، عزّزهما شعوره بالتقصير تجاه ناجي. فهو وإن سعى جهده من أجل زيادة شهرة صديقه، لكنّه يشعر بأنه كان بوسعه فعل ما هو أكثر، لذا فقد بذل قصارى جهده في المقالة، وطرّزها بالشجن والأسى، وكأنّها تكفير عن ذنبه. "وحيدًا مات، في عزلته الباردة"، هكذا بدأها، وكان له السبق. وانتشر خبر انتحار ناجي الزهراني كانتشار النّار في الهشيم، وتناولتِ الخبر صحف كثيرة، وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصوره وخبره. وتناقل الكثير من القرّاء عناوين كتبه وصورًا لأغلفتها، وصار من لا يعرفونه يبحثون عنها.
خيال الخيال ليس وليد مخيّلة الكاتب، بل مخيّلة الشّخصيّة
وفي قرية بعيدة بالدّيوانيّة، قرية لا يتجاوز عدد بيوتها المتناثرة بضع عشرات، كان ثمّة شابٌّ يجلس تحت شمس الشّتاء، عند نهر صغير، تحيط به الأرياف الشاسعة. على الجانب الآخر من النّهر، أمامه، كان ثمّة رجلٌ يعالج الأرض بمسحاته. وضع الشّاب في حضنه كتابًا وجلس يتتبّع الأخبار في الهاتف. أشرقت ابتسامة بهجة على وجهه تُباري شمس الشّتاء، وهو يقرأ الأخبار ويرى المنشورات. وكان يتفجّر ضاحكًا بين فينة وأُخرى. وبعد برهة من الزّمن وضع ناجي الزهراني الكتاب جانبًا، ووضع فوقه الهاتف، ثمّ استلقى على العشب وأغمض عينيْه في حبور، وابتسامة النّصر تمتزج مع الشّمس وتنتشر في وجهه. لمْ تشعر روحه القاسية بالذّنب على فعلته، بل كان فخورًا كل الفخر بنفسه. كان واثقًا من نجاح خطته، فقريته النّائية منشغلة طوال وقتها بالأرض والزّرع والحيوان، وما كان الخبر ليصلها، وما كان أحدٌ يعرف عنها وعن مكانها شيئًا، حتّى ولا أقرب أصدقائه إليه.
ها هو ينتصر لنفسه، وينتصر على الزّمن حتّى، وإن لمدّة قصيرة. فقد نال شهرة ما كان يحلم بها، وأصبح اسمه على كل لسان وفي كلّ الصّحف. وانتصاره على الزمن يتجسد في تحطيمه لكل الحواجز، ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. ففي حديث الصّحف عنه، وكذلك الأدباء والأصدقاء ومنشوراتهم، أصبحتْ سيرته كلّها قطعة واحدة، وها هي الأزمنة تنفتح على بعضها، ويتّصل ماضيه بحاضره، ويمتدّان نحو المستقبل، في لحظة آنية واحدة. كان كلّ ذلك يحدث أمام عينيْه، هو البطل الخفي وصانع تلك اللحظة.
في فحوى هذه القصّة، لا في مطلعها، كانتْ تتجسّد نبوءة زاهد بمستقبله وبمصيره، مع أنّي لا أحسبها نبوءة ولا بطيخاً، بل كانت فقط تحصيل حاصل ونتيجة يعرفها زاهد خير معرفة. ولكن، أنّى للنّقاد والمتفيهقين معرفة ذلك، وهم يجهلون كلّ شيءٍ عن الرّجل! فليستْ تصوّراتهم عن النّبوءة إلا مجهولًا يضاف إلى المجاهيل الّتي تحيط بزاهد.
وما أعرفه عن الرّجل هو أيضًا نتف من أخبار كانت تفلت منه أثناء أحاديثنا. وقد حاولت مرارًا، وإن بنحو غير مباشر، أنْ أعرف عنه معلومات أكثر. وكان دائمًا ما يقول لي إنّ حياته بأكملها مدوّنة في قصصه، بما فيها تاريخ ميلاده واسم قريته وتفاصيل حياته الدّقيقة ومغامراته وكلّ الأحداث الأُخرى. أقول له إنّ قصصه مليئة بالتواريخ والمغامرات والأحداث وأسماء القرى والمدن. فكان يجيب: لو أنّ أحدًا ما يكتشف جهازًا يميّز بين الحقيقة والخيال في نصٍّ ما، ويلوّنهما باللونين الأخضر والأصفر، لرأيت الجُمل في نصوصي ملوّنة بالأخضر، يتخلّلها الكثير من الجُمل الصَّفراء، أو ملوّنة بالأصفر، يتخلّلها الكثير من الجُمل الخضراء. ولو كان بوسع هذا الجهاز أيضًا أن يلوّن بالأحمر خيال الخيال، لرأيت الأخضر والأصفر والأحمر تشتبك في ما بينها جميعًا.
وحين أسأله عن خيال الخيال، يقول لي إنّه حينما يتناول في قصصه شخصيّة ما، خياليّةً كانتْ أم حقيقيّةً، فستكون لهذه الشّخصيّة، في كلا الحاليْن، حياتها وخيالها أيضًا. فخيال الخيال ليس وليد مخيّلة الكاتب، بل وليد مخيّلة الشّخصيّة، التي تكون لها استقلاليتها وخياراتها ومنطقها وفلسفتها، وهي بذلك تُملي إرادتها على الكاتب نفسه. وحين كنتُ أسأله: كيف لشخصٍ إذًا معرفة ما نثرت عن حياتك في قصصك؟ كان يجيب ضاحكًا: عليه أنْ يكتشف هذا الجهاز!
على أيّ حال فالنَّزر القليل الذي أعرفه عن زاهد سأدوّنه ههنا.
وُلد الرّاحل ونشأ في قرية في الديوانيّة لا أعرف اسمها، كقرية ناجي بالضّبط، بيوت قليلة متناثرة، لا شأن لأهلها بالأدب والقراءة. وقد أطلق عليه أبوه الأُمّي هذا الاسم ليس لأنه أدرك المعنى وأعجبه، بل لأنّ له وزن وقافية تُماثل بقية أسماء أبنائه. ولعلّ هذا يُجسّد الشغف بالشعر لدى العرب، بكلّ طبقاتهم. فحتى الرّجل الأمّيّ يسهم في إحياء الشعر، على طريقته الخاصّة. ولمْ يسعَ أحدٌ من أهله إلى اقتناء كتبه وقراءتها، ولا أي أحدٍ من أهل القرية، مع أنهم ومحيطهم كانوا أبطال الكثير من قصصه.
وفهمت بطريقة ما أنّ أهل القرية يعرفون أنّه "زويهد المثقّف" ويجهلون كلّ شيء آخر عنه. في حين يعرف العالَم أنّه "زاهد القاصّ البارع والمترجم العظيم"، ويجهلون كلّ شيء آخر عنه. ويعرفه سكارى ضفاف دجلة على أنه "حكّاء دجلة"، ويجهلون كلّ شيء آخر عنه. مات "زويهد" الطيّب المؤدب، "مسكين، لمْ يخلّف أحدًا يحمل اسمه، سينساه النّاس"، هذا ما قد يفكّر به أهل قريته. مات "زاهد الذي ستخلّده كتبه وترجماته"، هذا ما سيفكّر به القرّاء.
وما استنتجه من هذا هو أنّ زاهدًا، ولا شك، كان واثقًا من أنّ بوسعه إيهام الناس بموته، والعودة إلى قريته الوديعة، والجلوس في الشّمس أمام نهره الأثير الذي ربّما كان يجلس على ضفافه يُطالع الكتب. وكان واثقًا من أنّ أحدًا لن يصل إليه، وأن الضّجة الّتي وقعت بعد موت ناجي الوهمي، كانت ستحدث معه أيضًا لو أنّه سلك الطّريق ذاتها. وأظنُّ أنّه كان يعرف جيّدًا أنهم سيكتبون "وحيدًا مات، في عزلته الباردة". وسواء أكان سيموت فعلًا أم سيسلك الطريق الذي سلكه ناجي، فإنّ هذا لن يغيّر في الأمر شيئًا، ولنْ ينال سوى تلك الجملة. لذا فقد قدّم الجملة على طبق من ذهب في قصّته عن ناجي الزّهراني، وسبق الجميع إليها، ولا نبوءة ولا بطيخ.
كلّ هذه الأفكار والآراء المثيرة للغاية، والتنبّؤات والتكهّنات، هي لُغة شعرٍ وأدبٍ وصحافة أكثر منها لغة حياة. كما يقول الشّاعر الإيطاليّ ﭘازوليني:
(أيُّ عالِمٍ بائِسٍ في فِقْهِ اللُّغةِ بإمكانِهِ أنْ يُشَكِّلَ، بين كَلِمةٍ وأُخْرى - مَعْزُولةً ومَغْروسَةً في الصَّمْت -
خِطابًا مَعْطوبًا،
خِطَابًا بَائسًا بلا أفْكار، وبِلا عَقيدَة
سوى عَقيدَةٍ خَاليَةِ القُدْسيَّة، عَقيدَةِ الشِّعْرِ في الأدَب).
[...]
إنَّ لُغةَ الفِعْل، لُغةَ الحَياةِ الّتي تُعبِّرُ عَن ذاتِها
أكثَرُ سِحْرًا على الإطْلاق!
إنّها هي الّتي تُعيدُ تَشكيلَ ذاتِها
مِنْ كِتابِ شِعْر - حَالما يُغْلق -
هي قَبلُ وهي بَعْد:
وما بَيْن ذلك ثَمَّة واسِطة للتَّعبير، تَجْعلُ تِلك اللُّغة تَنْبَعثُ.
هذا كُلُّ ما في الأَمْر. إنَّهُ صَنيعُ السَّحَرة.
وذلك بالضّبط، كما وردتني من أخبار، ما قام به الصحافيّ السّاحر والماكر صاحب المقال المُثير للجدل عن موت زاهد، وكان قد راسَل المترجم في أسابيعه الأخيرة. وأنا أعرف هذا الصحافي، وقد راسلني مرارًا للحصول على مقابلة مع زاهد. ولأنه يعلم أنّ الرّجل لا يستجيب للصحافة، فقد قام بخديعة استغلّ فيها طيبة المترجم: ادّعى أنّه طالب دكتوراه، يُنجز بحثًا عن التّرجمة، وتوسّل إليه أن يلتقي به. وما كان لزاهد أنْ يرفض توسّله، فأرسل له عنوان بيته واتّفقا على اللّقاء. وقدِم الصّحافي الخبيث، واستقبله زاهد في بيته، وصنع له الشاي بنفسه، وأجاب عن أسئلته بكلّ ودّ. وأدرك الصحافيُّ أنّه يعيش وحده تمامًا.
وكان لديهما موعد آخر لإكمال المقابلة، ولكنّ زاهدًا وقع طريح الفراش. وقام الصحافيّ بمراسلته من أجل تحديد موعد اللقاء الثّاني، فلمْ يحصل على جواب. وأظنّ أنّ زاهدًا كان قد رحل عن عالمنا قبل أيّام من صدور المقال البغيض. وقصد الصّحافيُّ البيت، وطرق الباب ولكن لا جواب، وحين سأل في الجوار، أخبروه أنَّ الرّجل لا شكّ قد مات. قيل له إنّ سيّارة الإسعاف حملته من بيته على النّقالة شبه ميْت. فما كان من الصّحافي المسموم إلّا أن انتهز الفرصة، وعلم أنّه خبر الأخبار، سواء كان صحيحًا أم كاذبًا، فكان له السّبق في النَّشر. وتحدّث في مقاله عن قصّة لقائه به، وقد لفّق فيه ما شاء من الأقوال على لسان الرّجل، وقد نال الماكر أكثر ممّا كان يأمل. ولشدّة ما فيه من التّلفيق فقد أثار المقال جلبة وجدلًا واسعًا، وأنا عن نفسي شعرت بالاشمئزاز منه، وهذا ما دعاني إلى كتابة هذه السّطور.
أظنّ أنّه رحل عن عالمنا قبل أيّام من صدور المقال البغيض
أمّا ما وصلني من أخبار أظنّها موثوقة، (إنْ كان زاهدٌ قد مات بالفعل) فهي أنّه لمْ يمتْ وحيدًا، ولا في عزلة ولا في برد. وعلى عكس بطل قصّته ناجي، فقد رحل زاهد في الرّبيع الدافئ. وقيل لي إنّه حين وقع طريح الفراش التفّ أهله من حوله، فكان أبناء إخوته وأخواته يتناوبون على مرافقته والاعتناء به، بكلّ عطف وحبّ وحنان. وقد كانتْ تتناوب على العناية به أخواته أيضًا، فكان فيض الحبّ والحنان يملأ البيت. وسط هذا الدّفء ووافر الحبّ والجمع الغفير، فاضت روحه، على ما أظنّ.
على أنّ ما أتمنّاه بالفعل، وإنْ كان ضربًا من الخيال، هو ما قرأت من تكهّنات أحد الصّحافيين، وقد شطح بعيدًا في خياله. يخمّن هذا الصّحافيّ، وبنسبة كبيرة حسب رأيه، أنّ زاهدًا لم يمتْ، فهذه إشاعة لا غير، وما قام به هو أنْ نفّذ الخطة ذاتها الّتي أقدم عليها صاحب قصّته ناجي. لقد تقاعد من عمله، وشعر بالوهن وتقدُّم السنّ فقرّر العودة إلى قريته النّائية، لينعم بالسّكينة والسّلام. وقد أوهم النّاس بموته، أو لنقلْ إنّه لم يفعل شيئًا سوى الاختفاء، وقد تكفّل الآخرون بكلّ شيء. وهو الآن، ولا شكّ، جالس تحت الشّمس على نهر صغير، يضحك منّا جميعًا.
أتخيّل كركرته الّتي كنت أسمعها على الهاتف، وتشرق في وجهي ابتسامة رضا.
وما يمكنني أنْ أختتم به هذه السّطور هو أنّ زاهدًا صنع كلّ هذه النّبوءات، أيًّا كانت الحقيقة، أو ربّما يجدر القول إنّه تصوّر ما ستكون عليه حياته في هذه اللحظة، مستندًا على المعطيات والبراهين الّتي بين يديه. فلا نبوءة ولا عزلة ولا برد ولا وحدة. هذا كلّه شعر وقصّ، وليس حياة.
كلّه هراء في هراء.
والسلام.
سامر، صديق الرّاحل وناشره.
* شاعر ومترجم عراقي مقيم في إيطاليا