ينتشر في تونس شعور شعبيّ بالتوَهان وعدم القدرة على تفسير ما يحدث في البلاد. شعور يصدّره المشهد السياسي والإعلام وسجالات النخب، حيث تبرز شروخات في قراءة التاريخ وبناء صورة مشتركة، ويعسر أن نعثر على اتفاق حول خيارات المستقبل. يُنتج كل ذلك حالةً من عدم القدرة على الإمساك بالواقع. حتى الكتابات الفكرية تبدو مُحجمةً عن محاولة المسك بخيوط هذه اللعبة المجنونة. تبقى رغم ذلك جرأة الفن.
في معرضه، "alea jacta est .tn" الذي أقيم بين 22 و31 حزيران/ يونيو المنقضي، في "المتحف الأركيولوجي" لمدينة سوسة التونسية، يقترح الفنان التشكيلي وسام العابد محاكاة لهذا المشهد التونسي المضطرب في 19 عملاً فنياً.
الخريطة، الرموز الوطنية، المخيّلة الشعبية، الذاكرة الجماعية، المستجدّات المحلّية: هذه مكوّنات معرض العابد. توليفة من الثيمات "باتت أدوات للعمل ومحفّزات له"، يقول العابد في حديث إلى "العربي الجديد"، ويضيف: "يتناول المعرض مواضيع مختلفة تبدو لوهلة أولى متباعدة، لكن من عمل لآخر يبدأ الزائر بربط الأعمال ببعضها البعض وببناء قراءة للمعرض كلّ حسب وجهة نظره ومواقفه الخاصة".
وكما تتعدّد المواضيع، تتنوّع في المعرض التقنيات والأساليب، حيث تبدو هي الأخرى متباعدة، بين إعادة تدوير المواد والتنصيبات والتنضيد والرسم والسَحب والتصوير والتفاعل مع البرمجيات والأدوات الوسائطية (...).
كيف يُمكن أن تتجمّع كل هذه العناصر في إطار واحد لتُنتج معنى؟ لعلّ ذلك التباعد بين المواضيع والقضايا والأدوات هو نفسه الخيط الذي يقود لبناء وحدة بين عناصره؛ إنه تكثيف بصري للمتناثر العابر، وما الواقع الذي نعيشه غير الارتطام اليومي بهذا المتناثر العابر.
لم يخرج اختيار العنوان عن هذه النزعة التركيبية للمتباعد. يقول العابد شارحاً فكرته: "يتكوّن العنوان من جزأين: alea jacta est عبارة لاتينية معروفة تعني عدم إمكانية الرجوع إلى الخلف أو تدارك قرار أو اختيار ما. الجزء الثاني .tn فهو مستلهم من لغة الواب، وهو من محدّدات مجال البحث ويحيلنا هنا مباشرة وبصفة رمزية على المجال التونسي".
يضيف: "الجمع المفاجئ بين هذين الجزأين المكوّنين للعنوان يهيئ المُشاهد منذ البداية للتفاعل مع طرح يتطرّق للواقع التونسي ولظرفيّته الخاصة. لا يجعل هذا من المعرض موجّهاً للتونسين وحدهم بل هو معرض مداره تونس موجّه للتونسين ولغير التونسين على حدّ السواء، لكلٍّ حرية عبوره وقراءته في كل الاتجاهات".
وحول التصوّر العام للمعرض يقول: "كانَ محاولة للتموقع في هذا الظرف باختلافاته وأزماته (الشمال والجنوب، الطاقة، الموارد، الحكم، السلطة، التعليم، الهجرة وحرية التنقل، الإعلام...). مفهوما المسافة والتنقل حاضران بقوّة وبأشكال ووسائط عدة، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وهي عناصر تُمكّن الزائر من ربط الأعمال ببعضها".
يقدم المعرض توليفة من الأعمال التي تُعرض لأوّل مرة، كما يحتوي على أعمال أنجزت في مراحل سابقة، من 2005 إلى فترات قريبة. يوضّح العابد هذا الاختيار بالقول: "في هذا الجمع اختبار لسلاسة وعمق التمشي الذي دأبتُ على المُضّي فيه منذ سنوات. كلّ معرض جديد يمثّل اختباراً لترابط مكونات هذا المسار ومراحله".
سألنا الفنان التونسي كيف انطلقت فكرة المشروع، يقول: "يندرج المعرض ضمن مشروع بعنوان "بترودينار" Petrodinar وهي محاكاة ساخرة لعبارة البترودولار، مشروع يسائل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد وقد حضي بدعم من "صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني" لوزارة الثقافة التونسية. وبشكل عام، ينخرط المعرض في إطار الممارسة الفنية المعاصرة التي تنطلق من الواقع المعيش والتي تحاول فهمه في سعي لخلق فضاء تبادل لوجهات النظر وللتصورات التي نصنعها لأنفسنا وللآخر والمسافات التي تفصلنا عنه".
إلى أين تفضي محاولة العابد لفهم هذا الواقع المضطرب؟ لعلّ أهم ما تفضي إليه أنها تنقل الإشكالية إلى ذهن الزائر، حين يطرح وسام العابد سؤالاً يُراد له أن يبقى في منطقة المسكوت عنه. بعد كل هذا التوَهَان، هل يمكن تدارك ما يحدث لتونس؟ وكيف؟