تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة عن انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "لو لم أكن مصوِّراً لكنتُ موسيقياً. بل إنّ سِرّ تصويري هو ارتباطه العضوي بالإيقاعات والألحان، شرقية وغربية، من زرياب وباخ إلى أم كلثوم"، يقول التشكيلي السوري في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
تشغلني خمس لوحات متقارب في القياس: 100×80 سم، وكأنها سلسلة تقع بين ذاكرة العمارة الحضرية والتجريد، أُنجزها بالتناوب والمراجعة في محترفي الذي أسكنه مع العائلة في حيّ لا ديفانس بباريس منذ أكثر من ثلاثة عقود. لا أعرف متى تنتهي كل واحدة من هذه اللوحات: أتوقّف كالعادة دون قرار مسبَق، بين غابة من فَرَاشي وأنابيب صباغة الأكريليك.
■ ما آخر عملٍ لك، وما عملك القادم؟
عُرضت لي، العام الماضي، مجموعة مختارة من لوحاتي إلى جانب لوحات جديدة، في "غاليري روي صفير" بباريس. كذلك فإنني أكتب، في الوقت نفسه، نصوصاً في النقد الفنّي، ومن آخر ما كتبته في هذا المجال مقالٌ في تجربة الفنانة الجزائرية باية محيي الدين، التي يحتفي "معهد العالم العربي" بتجربتها من خلال معرض هذه الأيام. لوحاتها ترسم عوالم حُلمية، من جنّيات وعرائس فردوسية وجنان وريحان وثمار وزهور وملائكة.
أتمنّى لقاء أم كلثوم لأنها تمثّل رمزاً نهضوياً وتنويرياً
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك، ولماذا؟
لا أميّز في عملي بين الرضا وعكسه، لأنه نشاط وجودي بالنسبة إليّ، مثل الشهيق والزفير. أصوّر نهاراً، وأكتب فجراً، وأترك مسافة كافية بين هذين النشاطين حتى لا تختلط الأمور. لم أختر مهنتي وطريقة عملي هذه، بل هي التي اختارتني، وهذا عين الرضا القدريّ، في رأيي.
■ لو قُيِّض لك البدء من جديد، أي مسار كنتَ ستختار؟
لو لم أكن مصوِّراً لكنتُ موسيقياً. بل إنّ سِرّ تصويري هو ارتباطه العضوي بالإيقاعات والألحان، شرقية وغربية، من زرياب وباخ إلى أم كلثوم. كنت سابقاً قد درستُ عاماً كاملاً الموسيقى الشرقية، وعاماً آخر مبادئ الموسيقى الغربية، كذلك فإنني أستمع إلى الموسيقى يومياً بشكل جادّ، أي ليس للمصاحبة، بل من باب المعرفة. الموسيقى تغذّي تصويري انطلاقاً من الوجدان والوجد، ووصولاً إلى الوجودية، وهي أيضاً تغذّي شغفي الكبير بفلسفة علم الجمال.
■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
التزامي الأساسيّ يتعلّق بالنضال البيئي، بشتّى مناحيه، وهو التزامٌ نحتاج إليه اليوم وتحتاج إليه أخلاقية التقدّم العلمي. أعتبر مجرّة درب التبّانة وطني الأوسع، وأحاول دراسة أسراره بشغف كبير، من ثقبه الأسود إلى أجرامه ونيازكه ومجموعاته.
■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
أتمنّى لقاء أم كلثوم لأنها تمثّل رمزاً نهضوياً وتنويرياً. هي، مع السنباطي، موهبة مهمّة، ولا سيّما في قربهما من الفلسفة الصوفية، واستنباط مقامات موسيقية من بحور الشعر العربي. أملك أرشيفاً موسيقياً معتبراً لهما، بما فيه وقائع المؤتمر الأول للموسيقى العربية عام 1932 في القاهرة، خلال عهد فؤاد الأول، وكذلك لقاء أم كلثوم مع عالم الموسيقى الهنغاري بيلا بارتوك.
أثّرت قصص زكريا تامر في أسلوبي بالتصوير
■ صديقٌ يخطر على بالك أو كتابٌ تعود إليه دائماً؟
الصديق هو الفنان السوري والمعلّم نذير نبعة (1938 ــ 2016)، وكذلك زوجته شلبية إبراهيم، أطال الله بعمرها. كنّا جيراناً في دمشق، بحيّ الروضة، وهما يسكنان الروح والقلب، بمعدنهما الإنساني النادر.
أمّا الكتب، فالأعمال الكاملة للقاصّ السوري زكريا تامر (1931)، التي لا أُنكر تأثيرها في أسلوبي. وأُضيف إلى أعماله كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون "التطوّر الخلّاق"، الذي عدت لقراءته أكثر من مرّة.
■ ماذا تقرأ الآن؟
أقرأ كتاب "نقد الحداثة" (Critique de la modernité) لعالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين.
■ ماذا تسمع الآن، وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن تشاركك سماعها؟
أستمع إلى عازفة البيانو البرتغالية ماريا جواو بيرس -التي أعتبرها من أفضل عازفي البيانو في العالَم- وهي تؤدّي "المتتابعات الإنكليزية" للألماني يوهان سباستيان باخ. وأقترح كذلك "الأطلال" لأم كلثوم، ولا سيّما مقطع "هل رأى الحُبّ سُكارى مثلنا؟".
بطاقة
تشكيلي وناقد فنّي سوري من مواليد دمشق عام 1941، ويُقيم في باريس. عمل مدرّساً للتصوير الفنّي في "كلّية الفنون الجميلة" بدمشق، وفي مثيلتها بالدار البيضاء في المغرب. أقام نحو سبعين معرضاً فردياً في مدن وعواصم عربية وغربية، وأعماله تشكّل جزءاً من مجموعات متاحف عدّة، من "معهد العالم العربي" في باريس إلى "المتحف الوطني" بنيودلهي. من إصداراته في النقد الفنّي: "وجوه الحداثة في اللوحة العربية"، و"المصوّر في مرآة الناقد".