ما يميّزُ تجربةَ الناشر ياسر كتّوع، الذي أسّس دار النشر الباريسيّة "بترا" منذ حوالي عقدين من الزمن، هي العِصاميّة التي تمثّلت في تجربة مُهاجر وصل إلى فرنسا من مدينة غزّة قبل أربعين عاماً، وبعد سنوات من الدراسة والعمل، قرّر برفقة زوجته، الشاعرة والكاتبة الفرنسية جانين بود، الانخراط في عالم النشر في مدينة ذات سوق يمتاز بالمنافسة لكثرة دور النشر ونوعيّة عناوينها ومنشوراتها.
هناك بالطبع ناشرون متمرّسون من ذوي الأصول العربيّة في فرنسا، لا سيّما من المغرب العربي، إلّا أننا لا نجد كثيراً بين المغتربين الذين قدموا إلى فرنسا في شبابهم وانخرطوا في تجربة تأسيس دار نشر؛ لصعوبة الاستثمار في هذا المجال، وما يتطلّبه من جهد ووقت وتَمكّن من اللغة الفرنسيّة وامتلاك شبكة علاقات كافية. اليوم، يرأس ياسر كتّوع دار نشر بإصدارات نوعيّة وفي حقول متشعّبة ومُنافِسة في سوق النشر على نطاق مدينة مهمّة كباريس.
عاشت دار "بترا" - كما يوضّح ياسر كتّوع في حديثٍ إلى "العربي الجديد" - أزمات وصعوبات ومرّت بمراحل متعدّدة منذ تأسيسها، كأيّ دار نشر ناشئة تحتاج الكثير من الجهد والاستثمار، بالإضافة إلى الجهد والوقت الكبيرين اللذين تتطلّبهما متابعة أمور إداريّة كثيرة "كتعبئة الطلبات للحصول على مساهمات من وزارة الثقافة الفرنسيّة لتمويل طباعة بعض الكتب وإصدارها، أو البحث عن تمويل لإصدار كتب ودراسات مُتخصّصة، فضلاً عن المشاركة المُكلفة ماديّاً في صالونات الكتب؛ وكل هذا ضرورة ماسّة لدار نشر مثل 'بترا'، فهي ليست بحجم دور نشر معروفة كـ'غاليمار' أو 'فلاماريون' أو 'أكت سود'، وتحتاج باستمرار للمشاركة في هذه النشاطات للتعريف بمنشوراتها".
نشرت الدار عشرات الكتب الموزّعة على أربعين سلسلة
آخر هذه الأزمات بالطبع هي جائحة كورونا التي عاشتها مُجمل دور النشر الفرنسيّة خلال العامين الماضيين. فقد عانت دور النشر الفرنسيّة خلال الجائحة من صعوبات ماديّة وإداريّة، نتيجة الإغلاقات والقيود الاجتماعيّة والحجر الصحيّ الذي فرضته السلطات، ممّا قلّل من نشاطاتها ومشاركاتها في معارض الكتب. فضلاً عن إلغاء بعض الفعاليات الثقافيّة المهمّة أو تأجيلها للسنوات القادمة. في بلدٍ يحتفي بالكتاب، ويقدّمه كهدايا في المناسبات الشخصيّة والوطنيّة، ويقف فيه القرّاء طوابيرَ أمام المكتبات لشراء عناوينهم، فإنّ صالونات ومعارض الكتب هي فرصة مهمّة للتعرّف إلى مُنتجات دور النشر، والتعريف بكتّابها، وتنظيم نقاشات حول كتبهم، وإقامة حفلات توقيع خاصّة بهم.
وفي ما يخصّ الأحداث في سوق النشر الفرنسيّة منذ بداية الجائحة الصحيّة، تشير الإحصائيّات الرسميّة إلى مفارقات مُثيرة في هذا الموضوع. فقد انخفض، من جهة، عدد الناشرين النشطين بحيث وصل إلى 4226 في نهاية عام 2020، مقابل 4546 في العام الذي سبقه، أي بانخفاض قدره 7%. وحدث أيضاً انخفاض في إنتاج الكتب الجديدة، ففي عام 2020 وصل إلى 60.541 كتابا، وهو انخفاض قدره 11.2% عن العام الذي سبقه. بينما كان قد بلغ قبل عشر سنوات أكثر من 70.000 عنوان جديد في كافّة الحقول مجتمعةً. إلّا أنّ نسبة المبيعات، من جهة أخرى، زادت 19 بالمئة في عام 2021، وهذا أحد "إيجابيات" انتشار الجائحة التي زادت من رغبة القرّاء في امتلاك الكتب وقراءتها في المنزل خلال الحجر الصحيّ، لتجنّب الخروج إلى الأماكن المكتظّة من مقاهٍ وحانات ومطاعم.
لحسنّ حظ الشعر، ولحسن حظّنا، لم يتمّ إلغاء النسخة الأخيرة من "سوق الشعر" الذي أُقيم بين 24 و28 من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بعدّ أنّ تمّ إلغاؤه في العام الذي سبقه. وفي "سوق الشعر" هذا، الذي يُعقد بشكل سنويّ في ساحة سان سولبيس في الدائرة السادسة بباريس، كانت فرصة اللقاء الأوّل لنا، وبمحض الصدفة، مع الناشر ياسر كتّوع، الذي يبدو أنّ أحداً لم يسبق أن كتب عن تجربته ونشاطاته عربيّاً. كان ذلك اللقاء فرصة للاطّلاع على منشوراته وكتبه التي كانت ممتدّة على طاولة في وسط المعرض، بين مئات من دور النشر الفرنسيّة التي جاءت من كلّ مدن البلاد، ومن بعض البلاد الفركفونيّة، مثل كندا وبلجيكا، للمشاركة في هذه التظاهرة السنويّة التي يتعطّش إليها مُحبّو الشعر.
أصدرت "بترا" (www.editionspetra.fr) نحو 300 كتاب منذ تأسّسها، في حقول العلوم الإنسانيّة بشكل عام، وفي الأدب، من رواية وشعر. تتوّزع هذه الإصدارات على سلاسل (يقارب عددُها الأربعين) تنتهجها دُور النشر عادة "لتقسيم إصداراتها، وتبويبها، وإضاءة بعض الثيمات، بحيث يستطيع القارئ أو المُشتري أن يحصل على العناوين في المواضيع التي تهمّه بسهولة". وهي سلاسل تتّصف بالجدّة وتُدخِل القرّاء في مواضيع معاصرة مثل قضايا البيئة وتشابكها مع حقول الأدب، ودراسة تأثيرها في السياقات الاجتماعيّة.
نجد بين منشورات "بترا" سلسلةً بعنوان "مواد لإعادة التدوير"، تنضوي تحتها عناوين شيّقة مثل كتاب "اليوم الذي ستأكل فيه الريبورتات التفّاح" للكاتبين إيمانويل بار وغريمود زافين، وكتاب "الحياة الثانية للأشياء، إعادة التدوير والتعافي في المجتمعات المعاصرة" للكاتبتين إليزابيث أنستيت ونتالي أورتار، وسلسلة "أنثربولوجيا" التي صدرت تحتها كتب مثيرة وشيّقة مثل كتابيّ "أنثربولوجيا وجوديّة"، و"أرسطو، هايدغر، بيسوا: نداء الأنثروبولوجيا" لألبرت بيتت.
وهناك سلسلة بعنوان "التعليم، فنّ المُمكن" والتي نجد فيها أعمالاً حول التعليم العالي والمتوسّط وقضاياه في فرنسا وفي بلدان من العالم العربي كالجزائر، وسلسلة بعنوان "الجماليّات التطبيقيّة"، وأخرى بعنوان "أوروبا: بلاد ومجتمعات" التي تنضوي تحتها عناوين في القضايا الاجتماعيّة وعلاقتها بالسيّاسة والاقتصاد في أوروبا، وسلسلة حول "الأدب المقارن"، وحول "البيداغوجيا والعلوم الإنسانيّة"، وأخرى مخصّصة لقضايا ساخنة في الساحة السياسيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة مثل المنفى وقضايا الشباب، إضافة إلى سلاسل حول ثيمات تتناول قضايا الفلسفة وإشكاليّاتها مع حقول البحث الاجتماعيّ الأخرى مثل الأنثروبولوجيا والأخلاق، وأخرى تختصّ بمناطق جغرافيّة وبلدان مُحدّدة كمجموعة "المجتمعات والثقافات المابعد سوفييتيّة"، وتنضوي تحتها كتب مثل "البحث عن هويّة إمبراطوريّة، النيو أوراسيّة في روسيا المعاصرة" للكاتب مارلين لارويل.
تمتلك "بترا" مكتبة في باريس تقرّبها من القرّاء ورغباتهم
أمّا حصّة الأدب في منشورات "بترا"، فهي سلسلة "أصوات من الخارج" الخاصّة بترجمة أعمال أدبيّة - سواء كانت رواية أو قصّة - مأخوذة من كتب في الأدب المُعاصِر؛ حيث تُقدّم "مؤلّفين مُتَرجَمين من جميع أنحاء العالم، تمّ اختيارهم بشكل أساسي من الفترة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية؛ روائيون وكتّاب مسرحيون وشعراء لا تزال أعمالهم غير معروفة بالفرنسيّة". وهناك سلسلةٌ أيضاً بعنوان "أصوات أخرى - شعر" وتضمّ قصائد ثنائيّة اللغة مترجمة عن التركيّة والهنغاريّة والإنكليزيّة وغيرها، مثل كتاب "البقايا" للشاعر التركي النهضوي توفيق فكرت (1867 ـ 1915). وخلال نقاشنا تحدّثنا عن إمكانيّة إصدار كتب مترجمة عن العربيّة لكتّاب فلسطينيين وعرب على مستوى الشعر أو الرواية.
تعرّف "بترا" نفسها كـ"دار نشر مُتخصّصة في نشر الأعمال العِلميّة والتاريخيّة والأدبيّة من خلال المزج بين الماضي والحاضر والمستقبل". وتُشير الصفحة الإلكترونيّة لدار النشر إلى أنّ كلّ سلسلة يُشرف عليها باحثون ومتخصّصون في حقولهم، وهذا ما يميّز تلك الجدّة والمعاصَرَة في المواضيع التي تُنشر عنها وحولها. وهي دار نشر نشيطة، تُشارك بشكل دائم في أسواق الكتب والمعارض في منطقة باريس وخارجها، بحيث تصل إلى عشرات المعارض الدوليّة والوطنيّة، مثل "سوق الشعر"، و"معرض الكتاب الروسيّ" الذي أقيم في شهر كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، ومعرض "الكتاب الآخَر" الذي يُقام كلّ ستّة أشهر في باريس، وهو خاص بالناشرين المستقلّين، فيجمع أكثر من مئة دار نشر فرنسيّة، لا تتأتّى لها عادةً المشاركة بالمعارض الرسميّة بشكل عام والتي تسيطر عليها الدور الكبرى.
هناك عشرات من منشورات هذه الدار موجودة على رفوف بعض المكتبات الجامعيّة في باريس، وتتوزّع على أقسام المكتبات المختلفة، في العلوم الإنسانية، والأدب، والدين، وغيرها. وهذه حصيلة جيّدة بالنسبة إلى دار نشر، وتدلّ على نشاطها وفعّاليتها.
ويمتلك ياسر كتّوع، بالإضافة إلى دار النشر التي أسّسها ويديرها مع زوجته، مكتبةً تقع في الدائرة العشرين من باريس يعرض فيها منشوراته وكتبه، ومنشوراتِ دور نشر أخرى. مكتبة تمثّل فرصة "للتواصل المباشر مع القرّاء وتلمّس احتياجاتهم من عناوين، ومعرفة انطباعاتهم عن المواضيع والكتب التي ننشرها".