تتقاطعُ في شخصية الشيخ يوسف الأسير، الذي وُلد في صيدا اللبنانية، وعاش في حواضر عربية مختلفة خلال القرن التاسع عشر، ملامحُ نهضوية عديدة، خصوصاً أنّه شهد في زمانه آثار انقلاب الحالة المعرفية عند العرب، حيث انتعشت حركة التأليف والكتابة، وبدأت معها الصُّحف بالظهور، ولم يلبث هو نفسه أن صار أحد أبرز الفاعلين فيها من خلال مؤلّفاته واجتهاداته.
"الشيخ يوسف الأسير الأزهري والنهضوي: حياتُه وآثارُه 1815 - 1889"، عنوان الكتاب الصادر حديثاً، عن "دار نيلسن"، للباحثة اللبنانية منى عثمان حجازي، وفيه تعود إلى سيرة هذا العَلَم النهضوي، بداية من أبيات شعرية له نُقِشت فوق الباب الأوسط للمسجد العمري في صيدا، سرعان ما قادتها للكشف عن شخصية ذات ريادة على المستويَين المحلِّي والعربي، كما كتبت في مقدّمة العمل.
ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول، تتحدّث حجازي في الفصل الأوّل عن عوامل النهضة السياسية في القرن التاسع عشر، وأبرزها البدء بمراسيم الإصلاحات العثمانية، في محاولة من الباحثة لرصد إطاٍر عامّ لذلك العصر، قبل أن تنتقل في الفصل الثاني، لدَرْس وتبيان العوامل الثقافية والفكرية التي سادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأثرها في حياة الشيخ الأسير، وكيف تفاعَل مع انتشار المدارس والإرساليات في بلده.
كما تُضيء، في الفصل الثالث، على نسَبه ونشأته وبيئته وظروف دراسته ورحلاته، وأبرز صفاته ومزاياه، وارتحاله طالباً للعِلم بين كُتّاب الشيخ إبراهيم العارفي في صيدا، و"المدرسة المرادية" في دمشق، قبل أن يلتحق بـ"الأزهر" في القاهرة، ويقضي هناك سبع سنوات، ثم تنقُّله بين حواضر عثمانية مُختلفة كطرابلس والآستانة وبيروت التي رحل فيها.
وفي الفصل الرابع، تعرض الباحثة للجوانب التي جعلت من الأسير لُغوياً ضليعاً وقاضياً عادلاً وفقيهاً متعمّقاً، وصحافياً ذائع الصيت، وشاعراً مُجيداً، وأستاذاً تتهافت المدارس على إلحاقه بها؛ حيث علّم في "مدرسة الحكمة"، و"الكلية السورية الإنجيلية"، و"المدرسة الوطنية" في زقاق البلاط وغيرها، كما كتب في "الجوائب"، و"جريدة لبنان الرسمية"، و"ثمرات الفنون"، و"لسان الحال" وغيرها. أمّا عمله كقاضٍ وفقيه فانتقل فيه بين بكفيا وعكا، والادّعاء العام في متصرفية جبل لبنان، وعضوية "مجلس الشورى" في الآستانة، ورئاسة كتابة "المحكمة الشرعية" في بيروت وغيرها.
وتختم الباحثة كتابها بفصل خامس، تُفرده لعرض أفكار الشيخ يوسف، وآرائه في السياسة والإصلاح وفي الدين والمجتمع، وفي اللغة والأدب، والدور الذي لعبته كتاباته في نشر المعرفة والعلم، خاصة أنه شكّل مع أحمد فارس الشدياق وإبراهيم الأحدب "ثالوث الفصحى في القرن التاسع عشر"، الأمر الذي دفع النهضة الفكرية إلى الأمام.