ارتبطت تقنية الكولاج في الفن التشكيلي، بشكل أساسي، بما يسمى الـ"بوب آرت"، أحد أهم إرهاصات ما بعد الحداثة. ومن المعروف إنها تقنية تقوم على فكرة التجميع، أي محاولة المجانسة بين أشياء مختلفة وصياغتها في شكل هارموني من نوع جديد.
وللوهلة الأولى، يبدو العمل، المبني على تقنية الكولاج، فاقداً المركز البصري الذي يتيح للمتلقي التأويل من خلاله. لكنه، رغم ذلك، يعبّر في حقيقته عن مسار فكريّ وجماليّ منتزع من اليومي.
يخاطب فن الكولاج ذاكرة المتلقي الخاصة، ويملك جرأته على خلق عمل فني جديد من حياة أشياء مهملة وسابقة. هكذا، يمكن لقصاصات الجرائد والصور الفوتوغرافية بل وبقايا الأدوات المستخدمة أن تحرر الفن من مواده المألوفة ليصبح من الممكن تنفيذه بالمبتذل والعادي.
في معرضه "إعادة تشغيل"، الذي تنظّمه "المشربية غاليري" في القاهرة حتى الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، يعيد الفنان الإيطالي قارم قارت (Qarm Qart) تكوين صورته عن المدينة، يقصقصها ويعيد تجميعها.
هنا، عالمٌ من الخطوط يتحول إلى متاهة، تماثل متاهات الحياة التي يصبح فيها الكائن نقطةً تحمل وزن العالم على كتفيها. بعد سنوات من استقراره في القاهرة عام 1999، يعود قارت إلى النقطة. يعود لتحديد الخطوط، ويبني متاهة الواقع وعالمه الخاص. الصور غير المتطابقة في الكولاج تشكل خليطاً ملحوظاً، يهدم ويعيد بناء أنماط لنبض جديد. إنه انعكاس، أو ابتسامة خاطفة وعذبة في ظل هذه الأوقات المقفرة القاسية التي تعيشها المدينة المصرية.
الخطوط في خلفيات لوحات قارم قارت، اسمه الحقيقي كارمينيه كارتولانو، تشبه شكل خط الكوفي المربع العربي، إذ نلمح الخط العربي المنتظم في نقاط وخطوط حادة، من دون أن يكون لتكوين الخط معانٍ أو حروف واضحة، باستثناء اللوحة التي تشكّلت في خلفيتها كلمة "انزل"؛ الهتاف الذي استحث به المصريون بعضهم للمشاركة في أحداث الثورة طوال الأيام الثمانية عشر منها.
لكن "انزل"، هنا، ليست تعبيراً عن مشهد سياسي بقدر ما هي تجسيد للحظة حملت مشهداً جماعياً نادراً لاجتماع الناس على رغبة في التغيير. وجوه لوحاته التي ينتمي أغلبها إلى الريف أو الصعيد المصري، تشترك جميعها في الابتسامة التي تحملها. هل هي محاولة من قارت في قنص "الإنسانية" من متاهة اليومي العنيف؟
هذه التكوينات الهجينة في كولاج قارت تعكس رؤيته المشوشة لمدنيّة مصر ولحظاتها الكبرى. وهي ليست المرّة الأولى التي يقارب فيها الفنان التغيرات العنيفة التي شغلت مصر في الثلاثة أعوام الأخيرة، فقد كان له معرض تلا ثورة 25 يناير بعنوان "ماذا لو" استوحيت أعماله من شعارات وهتافات الجماهير آنذاك.
لعل قارت في "إعادة تشغيل" يحاول المصالحة مع ذلك العنف الكامن وراء سطح المدينة الاجتماعي/ الجمالي. كولاجه هنا هو "إعادة تشغيل" لعلاقة فنان بصخب القاهرة وتحولاتها.