ثمانيةٌ وثلاثون عاماً أرهق فيها السيّابُ عمره المقطوف مبكّراً، كشاعر أساسيّ، ارتبط اسمهُ بمنعطف كبير في الحركة الشعريّة الحديثة. حركةٌ لا يمكن فيها لصاحب "حفّار القُبور" بعد مرور خمسين عاماً، على رحيله، أن يرقد بآثارها في بطن الأرض، دون أن ترقد معه مَعاولهُ في الهدم، وتجاربهُ في البناء، وأحزانهُ المسربلة بموسيقاه الوعرة، تلك التي حاول تحريرها، وتفكيك بُحورها العَروضيّة: صافيها ومركّبها، باشتغالٍ جادّ، شكّل، فيما بعد، ملامح ذلك النص التأسيسيّ لمعظم النماذج الحداثية لقصيدة التفعيلة.
لم يكن كسراً أليفاً على مستوى الشكل، فحسب، ما قام به صاحب "المعبد الغريق" (1962)، بقدر ما كان حاجة ملّحة لانتشال الزمن الشعريّ من العاديّة والتَكرار، في ضَوْء مفهوم كلّي للشِعر ما لبث أن تبلور وسط تحوّلات سياسية واجتماعية حملت فيها الأحزاب السياسية، والحركات التقدميّة، في خمسينيات القرن الماضي، عناوينها الكُبرى حول الحريّة والثورة.
لقد جاءت قصيدة السيّاب، على حِفاف القهر والكدح والمرض، متلفّعةً بالطبيعة من جهة، ومحمولةً على هشاشة الكائن عند سقوط الجُدر العُليا، من جهة ثانية. في حين مثّلت الأسطورة عنده، نوعاً من "النوستالجيا" العميقة، تلك التي تبدو مثل معركة مغوليّة قديمة، تسقط منها رقعٌ بغداديّة دامية، وتفيض عنها، على جانبي النهر، أحزانٌ خُصوصيّة صافية.
ولعلَّ ريادة الشعر الحُرّ، تبدو مسألة إشكاليّة عند حصرها بالكلام النقديّ المرسل، إذ إنَّ الريادة، بحد ذاتها، لا تكفي لجعل تجربة ما، فارقة ومؤثرة، كما فعلت "جيكور"(قرية الشاعر) التي صارت مكاناً حركيّاً لروايته الخاصّة، ومفردة أرضيّة رُفعت إلى مصافّ الرمز المبثوث في عناقيد الريف الشعريّ.
"وأذكر من شتاء القريةِ النضّاحِ فيه النورُ/ من خَلل السحابِ كأنه النغمُ/
تَسَّربَ من ثقوب المعزفِ.."
من هنا، من داخل النصّ، يمكن تقليد "الريادة" أوسمة الأثر والقيمة، كما يمكن تعليل التجربة وتعريفها. ليس بعيداً عن هذا، "ريادة" نازك الملائكة، وعبد الوهّاب البياتي، في صُحبةٍ، تبدو خارجية فقط. عمّدتها (الأولى) بشيء من التنظير العام حول شكل القصيدة التي يجري اختبارها، كما قصّر (الثاني) عن تفعيل أدواته ولغته ليحقق فتحاً شعريّاً خاصّاً كما حقق صاحب "منزل الأقنان".
إنّها "أنشودة المطر" في هُطولها المُستمرّ، وإن كانت تحجبها، اليوم، مظلّات جديدة تحملها أجيال تتلمس لها في صيرورة الشِعر خياراتٍ أخرى. قصيدة العراق، بعمقها النفسيّ، وتجنيحها الواقعيّ فوق الخراب والفوضى والدم.