تحدُث لكلّ فنان تغيّرات إنسانية واجتماعية تؤثر في مشواره وأسلوبه الفني، وهي تقع غالباً بشكل تدريجي لينتقل خلالها الفنان من أسلوب إلى آخر من دون أن تتفطن العين العابرة.
يُخبرنا الفنان المصري محمد عبلة (1953) في بداية حديثه أنه بدأ حياته بالرسم الكلاسيكي، وتحوّل الآن إلى رسم لوحاته معتمداً على لعبة الظل والنور، ومُدرجاً ضربات متجاورة الألوان.
يقول شارحاً هذه الانتقالات: "يحدُث التغيّر في أسلوب الفنان بطريقتين: إحداهما عن طريق ما يتسرّب إليه من قراءاته ومعارفه ومشاهداته وإدراكه للزمن والتغيّر من حوله. وكل هذه أشياء تسرّب التغيّر التدريجيّ في الأفكار والرؤى إلى الفنان وأعماله. الطريقة الثانية تتّسم بالقصدية، أي أنها تتمّ بشكل واع حين تلح على الفنان الرغبة في التغيّر، وكلما اكتشف قيماً جمالية جديدة أثرت على أعماله الفنية وتمظهرت من خلالها".
التحق عبلة بكلية الفنون الجميلة في الإسكندرية ودرس التصوير، ثم سافر مباشرة بعد إنهاء الخدمة العسكرية إلى إسبانيا وفرنسا وألمانيا التي استقر فيها لسنوات، وبعدها درس في النمسا وسويسرا، حيث أقام بعض الوقت قبل أن يعود إلى مصر من جديد. من يضع سيرة الفنان أمامه ير بوضوح أن عبلة لم ينقطع عن ممارسة الفن منذ تخرّجه، كما ظل يقيم معارض شخصية وجماعية بانتظام.
يذكر عبلة أن أول معارضه كان في سنة 1972 بعد التخرّج مباشرة، ليسجّل اليوم أكثر من 60 معرضاً شخصياً، إضافة إلى الكثير من المعارض الجماعية. وبالرغم من ممارسته للغرافيك والنحت وأعمال الفيديو، إلا أن التصوير يظل أداته المفضلة التي يعبّر من خلالها عن نفسه وعن أسئلته الشخصية ومشاكل المجتمع من حوله، أي أنه حسب عبارته "وسيلته لطرح الأفكار".
أما عن دور الفن في مصر، فيتطرّق الرسّام إلى هذا الموضوع انطلاقاً من حديثه عن إقامته في الخارج، يقول "أتيحت لي فرصة أن أعيش كفنان داخل وخارج مصر، وهناك فارق كبير على مستوى علاقات المجتمعات بالفن، وهذا الأمر مرتبط بالتعليم والمناهج الدراسية.
ففي أوروبا، هناك تقدير للفن ودوره في بناء المجتمع يمرّر للأطفال في مرحلة مبكرة، من هنا يبدأ الفن في التأثير في الإنسان ويضع لمسات على شخصية الفرد. أما في مصر، فالفن قد فُرض عليه موقع جانبي، وبالتالي فهو لا يمارس دوره كما يجب. وبالرغم من كل العوائق، هناك فنانون ينشطون بما هو متاح، ويحاولون القيام بأدوارهم".
يقدّم الرسام المصري قراءة في التحوّلات التي مرّ بها الفن التشكيلي في بلاده منذ ثورة 1952، فـ"وقتها حدث تغيّر جذري في الفن، وارتبط بالعملية الدعائية للنظام الحاكم وخدمة الرؤية الاشتراكية، قبل أن تجيء فترة "الانفتاح"، ليصبح الفن شعبياً من جهة، ولكنه أصبح سطحياً في نفس الوقت، يُلبّي احتياجات طبقة صاعدة من رجال الأعمال الجدد، ومُعبّراً عن مصالحهم على حساب بقية المجتمع".
من أعمال معرضه الحالي، "حكايات ريم" |
يتابع عبلة حديثه عن تحوّلات الفن قائلاً "أما في فترة حكم مبارك، فقد تعرّف المشهد الفني في مصر لأول مرة على السياقات العالمية وتبيّن طُرق العرض الحديثة، مما سبّب هزة في قناعات الفنانين وعلاقتهم بالخارج".
توضّح لنا لوحات عبلة مسيرة فنان اتخذ من أعماله أدلة توثيقية لمراحل متعدّدة من تاريخ مصر، لذلك عندما سألناه عن أثر ثورة 25 يناير على فنّه وعن التحوّل الذي طرأ على أعماله بعد حدوثها، أجابنا قائلاً "قبل الثورة، كنت أستخدم كتابات مستمدة من جرائد وأقوال المعارضة ضد نظام مبارك. تحدّثت أعمالي عن المجتمع والفساد والتوريث والمشاكل التي تمسّ الناس، وكنت دائماً أطرح هذه المشكلات في أعمالي كجزء من المشاركة في الحراك الذي يدور".
يستطرد عبلة مُوضّحاً "كنت أشعر بأن ما أفعله مفيد، لأنه يزيد من حالة المعارضة والاحتقان عند معظم من يشاهد لوحاتي. أثناء الثورة كنت أخرُج يومياً إلى ميدان التحرير، ورسمت الكثير من اللوحات في الميدان، وحاولت توثيق الأحداث المهمة مثل أحداث مجلس الوزراء وأحداث شارع محمد محمود، وصولاً إلى عملية "تنظيف" الميدان ودهن الأرصفة، لتُهدر لوحات توثيقية للحظات المهمة في عمر الثورة المصرية".
وعن التغيّر الذي طرأ على الفن التشكيلي بعد ثورة 25 يناير، يقول الفنان المصري "بعد الثورة، أصبح الفن بطبيعة الحال ثورياً وبشكل موسّع. تناثر الغرافيتي على الجدران، وارتبط الفن بالاحتجاج وبالثورة. حدث بالفعل تغيّر في علاقة الجمهور بالفن، ولكنه للأسف تغيّر مؤقت انتهى بانتهاء الموجات الثورية وانحسارها من جديد، وبدأت مرحلة جزر لفنون الشارع، ومثالها الأبرز الغرافيتي، ليعود الفنانون إلى مراسمهم مرة أخرى متأثرين بما حدث، وبعضهم أُصيب بإحباطات بعد هبوط التوقّعات والآمال الكبرى. لقد كنا نظن أن الثورة ستقضي على الفساد والظلم وتجاوزات الشرطة، وكنا نُجهّز أنفسنا لبداية جديدة".
يلاحظ عبلة أن "المجتمع الآن لم يعُد متقبّلاً للحوارات والنقاشات التي تجعل الفن مزدهراً ومساحة الحرية لا تسمح بطرح وجهات نظر ورؤى مختلفة، لذلك تقلّص أمل التغيير".
عن واقع الفن في المرحلة الحالية يقول "لم يُصبح المجال بعد مفتوحاً للفن، ولم نستفد من الحريّات لنجعل الفن يلعب دوراً مهماً، خصوصاً أنه لم يستدع في اللحظات المهمة حالياً. وأقصد هنا الفن الحقيقي الذي ينبع من رغبة الفنان في المشاركة، وليس الفن المبتذل الذي يخدم الدولة أو النظام الحاكم. أعتبر هذه المرحلة مرحلة ترقب، إذ أجد أن كل فنان يبحث لنفسه عن ركن يتابع منه ما يحدث، حتى يصبح هناك انتظام للإيقاع أو تغيّر كبير. الكل ينتظر بترقب".
عندما سألناه عن مشاريعه الحالية، أجاب الفنان المصري: "بعد كل هذا التوتر والصراعات والانشغال بالأحداث السياسية، عدت إلى نفسي قليلاً كي أتعرّف على الأفكار التي تدور داخلي، وبالفعل بدأت أرسم كفنان يبدأ من الصفر، من هنا جاءت فكرة معرضي الجديد الذي يحمل عنوان "حكايات ريم"، حيث إن ريم هي حفيدتي وعمرها أربعة أشهر، ومن خلال اللوحات عدت للبدايات الأولى، وتخيّلت نفسي أحكي لطفل قصصاً من الحياة؛ عني وعن مصر وعن الطفولة والأحلام والأساطير. فكّرت أن أبدأ الحكي انطلاقاً من اللحظة الراهنة لتفهم ريم الحكايات بطريقتها الخاصة عندما تكبر".
يُشير محمد عبلة إلى أنه "أثناء المعرض سيقيم ورشاً للحكي يرتادها زوار المعرض، حيث سيكون متاحاً لأي شخص أن يحكي تصوّراته عن اللوحات وعن الحكايات التي ربّما تختفي بين اللوحات. لنطلق العنان أكثر للخيال، ونفتح أبواب أكثر لحكايات أجمل". ويضيف "بعد انتهاء المعرض سنختار أجمل الحكايات لطباعتها في كتاب" .