منذ بداياتها، ظلّت السينما الجزائرية تسير في اتّجاه واحد؛ إذ اصطفّت معظم الأفلام التي أُنتجت قبل الاستقلال وبعده حول الثورة بأبعادها وزواياها المختلفة، وكان من الصعب بمكان الخروج عن ذلك النهج.
ركّزت تلك الأعمال على المآسي والأحزان التي سبّبها المُستعمر الفرنسي. لكن المخرج محمد لخضر حمينة، الذي كان حينها مسؤولاً عن أحد الأجهزة السينمائية، أدرك أن الوفاء للثورة لا يتطلّب، بالضرورة، كلّ ذلك الكمّ من التراجيديا والبكائيات.
هكذا، قدّم أوّل فيلم كوميدي في تاريخ السينما الجزائرية "حسن طيرو"، سنة 1967، مع احتفاظه بثيمة الثورة كمنطلق أساسي في العمل الذي أدّى دور البطولة فيه الممثل الراحل أحمد عياد (1921 - 1999) المعروف بـ رويشد. وقد سبق للأخير أن قدّم قصّة العمل في مسرحية لعب فيها دور البطولة أيضاً، وحقّقت نجاحاً كبيراً، ما دفع بحمينة إلى اقتباسها وتحويلها إلى فيلم سينمائي.
تدور أحداث العمل في منتصف الخمسينيات، خلال ثورة التحرير (1954 - 1962)، لتروي قصّة رجل تحوّل من مواطن جبان لا يؤمن بالثورة إلى مطلوب خطير في نظر المستعمر، بعد أن تبيّن بأن أحد الثوّار يختبئ في منزله وبحوزته سلاحه.
ومن خلال مواقف الكوميديا والحوار الشيق وأداء رويشد، تُضاف إليها طرافة الموضوع وجرأته، لقي الفيلم نجاحاً كبيراً، ما دفع بالعديد من المخرجين إلى تكرار التجربة في سلسلة من أفلام الكوميديا، وهي "هروب حسن طيرو"، و"حسن النيّة"، و"حسن الطاكسي".
إضافة إلى قيمته الجمالية، تتمثّل القيمة التاريخية للعمل، في كسر ما كان سائداً على مُستويين: الانتقال من تقديس الثورة إلى النقد الذاتي، وانتقال الدراما المغرقة في المأساوية إلى الكوميديا، وهذا ما شجّع مخرجين آخرين على اقتحام هذا المجال، منهم موسى حدّاد في فيلمه الطويل "عطلة المفتّش الطاهر"، الذي أدّى دوره الرئيسي الممثّل حاج عبد الرحمن (1940 -1981).
ساهم اجتماع عدد من ممثّلي الكوميديا الكبار مثل حسن الحسني ويحيى بلمبروك إلى جانب عبد الرحمن، في نجاح الفيلم بشكل ملفت؛ إذ عُدّ أحد روائع الكوميديا في تاريخ السينما الجزائرية.
كما فتحت طريقة تناوله المبتكرة وفرادة شخصية "المفتّش" وأداؤه الكوميدي المقنع ولهجته المميّزة أبواب مشاركته بأدوار رئيسية في أفلام كوميدية أخرى، رغم قصر تجربته؛ من بينها " المفتش الطاهر يسجّل الهدف" و"هروب المفتش الطاهر" و"المسهول". وقد تحوّلت طريقته في التمثيل إلى مدرسة قائمة بذاتها، ومصدر إلهام لكثير من الممثّلين، بعضهم سقط في التكرار الفجّ.
اسم آخر صنع وجه الكوميديا الجزائرية، قبل الثورة وبعد الاستقلال، وهو حسن الحسني (1916 - 1987) المعروف بـ "بوبقرة". رغم مشاركته في أبرز الأفلام الجزائرية (مثّل في حوالي 40 فيلماً)، إلاّ أن أبرز أدواره الكوميدية لعبها في المسرح و"السكاتشات" التلفزيونية. قدراته في التمثيل كانت مميّزة ومبتكرة وقادرة على اكتشاف العادي والبسيط ومحاكاة المواطن القروي. وقد حاول العديد من الممثّلين تقليده، لكنهم لم يحققوا نجاحه.
أما أبرز الممثّلين في الكوميديا الجزائرية، من الجيل الذي تلى تلك الأسماء، فهو عثمان عريوات (1932)، الذي اكتشفه حاج عبد الرحمن في إحدى مسرحياته، ويُعتبر هذا الوجه الذي اختفى عن الساحة السينمائية منذ قرابة عقدين، عرّاب السينما الكوميدية الأوّل في الجزائر، ضمن الممثّلين الذين ما زالوا على قيد الحياة.
برز نجمه نهاية الثمانينيات، بعد وفاة حسن الحسني، الذي كان تأثّره به واضحاً من خلال محاكاة طريقته في اللباس والتمثيل. لكنه طوّرها بشكل سمح له بأن يتخطى ويتجاوّز ممثّلين يفوقونه خبرةً.
كرّس حضوره في فيلم "الطاكسي المخفي" (1989) لـ بن عمر بختي و"عايلة كالناس" لتتوالى نجاحاته في العديد من الأفلام الأخرى، أبرزها وأكثرها رواجاً فيلم "كرنفال في دشرة"، الذي أخرجه محمد أوقاسي سنة 1994، ما حوّله إلى أيقونة للضحك، إذ لا تزال العديد من المواقف والحوارات التي وردت على لسانه تُستخدم بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي.
الغريب أن وقائع سنوات الضحك التي صنعها ذلك الجيل انتهت برحيل معظمهم. كان على الجمهور أن ينتظر سنة 2009، حين قدّم المخرج الشاب إلياس سالم فيلم الدراما الكوميدية "مسخرة" الذي حاز عشرات الجوائز وحقّق نجاحاً جماهيريا ذكّر بالعصر الذهبي للسينما الجزائرية.
عدا ذلك، لم يعد في الساحة السينمائية سوى الابتذال والتهريج اللذين ساهما في تلاشيها، بعد أن نفضت مختلف أجهزة الدعم التابعة للدولة يدها عن السينما الكوميدية الهادفة، وعادت بوصلتها مجدّداً لتتّجه نحو السينما الثورية، التي تستهلك ميزانيات مالية ضخمة، دون أن تُحقّق الكثير، ما أوشك على إرجاع الأحادية السينمائية من جديد، لولا بعض التجارب المختلفة التي تُقدّم بين فترة وأخرى.