والدي روائيّ مغمور استقرّ في إنكلترا منذ زمنٍ لا أذكره. ملامحه أحجية ناقصة، أحافيرها مشوّشة في ذهني، ترسّبتْ من صُورٍ فوتوغرافية، اختلسها فواز ذات عشية من صندوقٍ مغبرّ تحت سرير أمي، كوّمها في حوش البيت، ثمّ ألقى عليها بعود ثقابٍ يشتعل. كنتُ في سابعتي، أو ربما أصغر من ذلك بقليل، لكن عينيّ فواز، والرّكام يتوهّج فيهما مثل تيلتين من نار، لا تبرحان ذاكرتي.
بعد واحد وعشرين عاماً من تلك العشية، تحديداً في عام 2010، التقيتُ بأبي في نيوكاسِلْ للمرّة الأولى في حياتي. ليالٍ خمس قضيتُها معه في شقته على نهر الـ"تاين" تعرّفتُ فيها إلى رجل ناديته بـ "والدي" ولم يربطني به من قبل غير حكم العلاقة البيولوجية الفاترة.
"والدك متشرّد لا أكثر... صعلوك هاربٌ من الفشل!"
هذا ما كنتُ أسمعه من أخي عن أبينا.
لكنّي، رغم ذلك، عايشتُ حكايةً أخرى فترة إقامتي معه. ربما كان أبي مغموراً، لكنه حتماً لم يكن فاشلاً.
في نيوكاسِلْ، كان "دكتور مصطفى" يلازمنا أغلب الأوقات، يأتينا في شقة والدي، بقبعته المائلة ومعطفه الأسود الطويل، ينزعهما ويعّلقهما على المشجب، ثم يجلس ليخوض مع أبي نقاشاتٍ طويلة أمام شاشة الحاسوب. على المكتب تتكدّس حولهما رزم أوراقٍ مبعثرة، وخلفهما كتبٌ كثيرة على رفوفٍ مرصوصة بين قواميس ثخينة.
دكتور مصطفى مهاجرٌ مصريّ، صديق مقرّب لوالدي، يترجم مخطوطاته من العربية، فتصْدرُ الروايات بالإنكليزية باسم أبي وتحرير دكتور مصطفى، معاً حقّقا نجاحاً نسبياً. تعاقد والدي مع دار نشرٍ بريطانية، ضمنتْ له دخلاً مستقراً، وتكفّلتْ بتوزيع رواياته على حوانيت الكتب في الأحياء اللندنية.
كان دكتور مصطفى على دراية بفحوى زيارتي لوالدي، إخباره بِنيّتي على الزواج، ومحاولة إقناعه بالعودة إلى الكويت. في ليلةٍ باردة، تعشيتُ معهما في مطعمٍ صغير بطرَف رواقٍ شاحب الإنارة، يعدّ الأسماك مقليةً بالزّبد على الطريقةِ الإنكليزية. أثناء العشاء، قال لي دكتور مصطفى، ودسم السمك يلتمع على شفتيه:
"أبوك نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال الروائيّ بداخله!"
أصغيتُ لاستطراده بتفاصيل، كنتُ قد سمعتُ من فواز بعضاً منها. ربما كان أخي محقاً حينما قال إن والدي فرّ من الإخفاق. كان دكتور مصطفى يمضغ طعامه بشهيّة، ويحدثني عن أسلوب أبي في الكتابة الذي يستهوي الإنجليز، رواياته المنسوجة من سحر الشرق والخرافات الكويتية المندثرة، محاولاته الروائية التي قوبلتْ بالتجاهل التامّ في الكويت، وبالسخرية من محرري الصفحات الثقافية أحياناً.
"أمّا نقّاد الإنكليز فوصفوه بـ "بن جلون" الانكليزية، والدك، كالعنقاء، بعث نفسه بنفسه هنا... في هذا الصقيع!"
قالها، وهو ينقر رأس سبابته على الطاولة الخشبية. التفتُّ لأبي. كان يأكل على مهل، ولم يقل شيئاً.
في تلك الليلة، لم يرافقنا دكتور مصطفى إلى الشقة. حين ترجّل من الميترو عند محطته، ظلّ السكوت يلفّني ووالدي متقابليْن. في مقطورتنا عجوز انجليزية، شعرها قصير وملتفّ كشعر خالتي موضي، إلا أنه محنّى وشعر الإنجليزية أبيض كالثلج. كانت تقبض على حقيبة جلدية صغيرة في حضنها، تفتح عينيها كلما توقف القطار، وتعود لغفوتها إذا ما تحرّك. خلف والدي، شابٌّ أسوَد يضع سمّاعتيه ويهزّ رأسه بانسجام. لمّا نهض، إذ بلغ محطّته، مرّ بجانبنا، فتناهى إلينا صخب موسيقاه. تسللت إلينا من الخارج نسمة باردة، أُغلق الباب بعدها وأغمضتِ العجوز عينيها مع تحرّك الميترو مجدّداً.
الهدير على السكة الحديدية يُربك الصمت. وصورة أبي ترتسم خيالاً على النافذة. ناظراً في الظلام المخيّم على الأحراش، كلّمني أخيراً وكأنه يقرأ سطوراً منقوشة على الزجاج:
".. في أحد صباحات يوليو البعيدة، استيقظ كاتبٌ بمنزله في "وداي شمس" ولاية أيداهو، نزل إلى قبو بنادق صيدٍ له، من بينها انتزع بندقيته المفضّلة، صعد بها إلى الرّدهة، حشاها برصاصتين ثم التقم فوهتها بين أسنانه ... وضغط على الزناد!"
رفعتُ قدميّ تلقائياً إلى حافّة المقعد، ضاماًّ ركبتيّ إلى صدري، شابكاً يديّ حول ساقيّ. واصل أبي حديثه دون التفاتة. كانت عيناه تتنقلان بين انعكاسِ صورتي على النافذة، وأشباحِ الأشجارِ المارقةِ سريعاً في الخارج:
"عبد القادر... أتصدّقني إذا قلت أنّى تركتكم خوفاً من المصير نفسه؟"
أجبتُه، حين التفتَ إليّ، بنبرةٍ منخفضة: "نعم، أصدّقك!"
سكتَ أبي بعدها، وبقيتُ أراقب العجوز تتمايل في غفوتها حتى وصلنا محطّتنا.
أثناء سيرنا على ضفة نهر التاين، تدفّق كلام أبي عن حلمه القديم باحتراف الكتابة، كيف كاد أن يدمّره قبل أكثر من عشرين عاماً، لمّا ترك وظيفته العسكرية متفرغاً للأدب. كان الإفلاس، والبقاء على راتب أمي المعلّمة، نتيجةً حتمية.
قال حين أشرفنا على شقته:
" على حافة الجنون انشطرتُ، بين عالمٍ حقيقيّ يتهاوى ورائي وآخر خياليّ كجزيرةٍ من سراب، أسبح نحوها ضدّ تيارٍ يقاومني، وهي تجنح عنّى كلما اقتربتُ منها، ثمّ تنهارُ وتتبعثر أمامي أشلاء حلم محطّم، عبثاً أحاول التشبث بركامها العائم"
ليلتي تلك أويتُ إلى مرقدي، أتقلّب في الظلام على أريكة غرفة معيشة والدي، أسحب غطائي إلى رأسي، وكلما أغمضتُ عينيّ استيقظت الذكريات.
لم أكن قد تجاوزت عامي الثاني حينما هجرنا أبي. ذكرياتي معه في تلكما السنتين حلقة مفقودة في حياتي، إنْ وُجدت فقد اضمحّلت وآلت إلى العدم. سمعتُ، من أخي، عن نوبات غضبٍ كانت تجتاحه وتحيله بركاناً يثور في وجه والدتنا. كنتُ صغيراً لمّا حكى لي أخي أنه فزع من النوم على صوت والدنا ذات ليلة، فقام مختلساً النظر من ثقب الباب، وحين رآه يرفع يده على أمي، ركض مرتعباً إلى حجرة خالتنا النائمة ودسّ بنفسه تحت لحافها. ما كنت لأصدّق كل ما يحدثني فواز به. لذا لجأتُ إلى أمي وسألتها:
"هل كان بابا يضربك؟"
ضمتني إلى صدرها: "لا تصغ لأخيك!"
استرجعُ ذلك، ويلحّ تساؤلي: أكان حديث أبي المبطّن بالندم إقراراً ضمنياً بتلك الحكايات؟ أشفقتُ من مواجهته بالسؤال. خشيتُ، إن فعلت، أن أذرّ الملح على جرحٍ غائرٍ لم يندمل.
التبستْ مشاعري تجاهه. كنتُ لمّا أتأمّله، مستغرقاً تماماً أمام شاشة الحاسوب، بالشيبِ الثائرِ في رأسه والغضون المتداعية على أطراف عينيه، كنتُ أعرف أنه لم يعد ذاك الرجل الذي طالما حدثني أخي عنه. الأشعة الخجولة التي انبثقتْ من سماء نيوكاسل الملبّدة، أذابتْ ذروة جبلٍ جليديّ حال بيني ووالدي. كنتُ كورقةٍ بلا أغصان على كفّ الريح، واكتشفت فجأة انتماءها إلى شجرة، رغم نأيها، كانت حقيقة، أدركتُ ظلالها، انحنيتُ إلى نتوء جذورها على الأرض، ولمستُ رطوبتها بيدي.
لمّا لوّحتُ مودّعاً أبي، ودكتور مصطفى بقبعته المائلة ومعطفه الأسود الطويل، من وراء نقطة جوازات مطار هيثرو، واستدرتُ مبتعداً، أحسستُ بأني تركتُ ورائي بعضاً منّي مع والدي، وأني أحمل معي شيئاً منه، إلى الكويت.
***
بعد مضي عامين على رحلتي إلى نيوكاسل، صبّتْ أمي لنا شاي العصر. منشغلاً بـالآي فون، جلس أخي كعادته إلى خالتنا موضي. والدتي مدّتْ يدها باستكانة الشاي، نادته أكثر من مرة قبل أن يرفع رأسه ويمدّ يمناه إلى الاستكانة.
عندئذٍ أضاء هاتفي برسالة، على الطاولة وضعتُ استكانتي وتناولتُ الجهاز. كان مقطعاً مرئيّاً أرسله فواز لتوّه، صُوِّر خلسة من سطح منزل حيٍّ سوريّ: أربعة وحوشٍ يركلون امرأة، ينتزعون غطاء رأسها ويطرحونه أرضاً، يدوسون بياضه بأحذيتهم العسكرية، وهم يجّرونها من شعرها كالذبيحة، ثم يختفون معها وراء المنعطف.
لمّا رفعتُ بصري، كان فواز ينظر إليّ ولا يراني. لم أخطئ النار بين عينيه، وهجها أخذني إلى عشيةٍ بعيدة باغت فيها شاندرا بالمطبخ، خطف منها علبة أعواد الثقاب ذات النجوم الثلاث، وهرب بها إلى الحوش، يثير الغبار بقدميه العاريتين، راكضاً نحوي، وأنا متربعٌ أنظر إليه، ووجوه أبي، متكوّمةٌ أمامي على الأرض.
* كاتب كويتي، والنص مقطع من رواية "وادي الشمس: مذكرة العنقاء"، الصادرة هذه الأيام عن "دار الفراشة للنشر والتوزيع" في الكويت.