لقاء واحد فقط جمع كاتب هذه السطور بالراحل جورج طرابيشي قبل 15 سنة، وهو ليس الوحيد -من بين الشباب الذين التقوه- من حظي بتشجيع منه، فالرجل يمتاز بأريحية سورية تجعله يناقش أعمق أفكاره مع شاب في العشرين، لمجرّد أن الأخير قارئ لبعض كتبه ومهتمٌ ببعض أفكاره.
لكن أمرين من ذلك الحديث في عمّان لم يغادرا ذاكرتي وتسببا لي بغصة إلى اليوم. الأول، قوله لي: هناك أمور لم أستطع كمسيحي كتابتها؛ أنت تستطيع أن تكتبها في يوم من الأيام. كان الحديث يدور عن فظائع متطرفين إسلامويين في السودان قاموا بعمليات ختان جماعي لبالغين مسيحيين هناك، ما تسبب بموت العشرات منهم.
لم أستوعب أن ابناً حقيقياً للحضارة العربية الإسلامية مثل طرابيشي لا يستطيع الكتابة عن بعض جوانبها المظلمة لمجرّد أنه مسيحي الديانة أو ببساطة لأن اسمه جورج. سيكتب لاحقاً: "بقيت أتألم من اسمي، بوقعه الأجنبي ودلالته الطائفية، حقبة مريرة من الزمن".
الأمر الآخر، هو حديثه عن الزمن القليل المتبقي له لإنجاز مشاريعه. حسُّ المغادرةِ والانكبابُ على العمل تحسباً لها، ينطوي على مناقبية مؤثرة.
مياه كثيرة جرت تحت الجسر، ولعل طرابيشي أنجز قسطاً لا بأس به من مشاريعه قبل أن يصمت. بالطبع ذلك الشاب لم يصبح مفكراً، ولو أن الأحياء باستطاعتهم الحديث إلى الموتى لودّ أن يقول لطرابيشي إن كتابة الشعر هي أيضاً شكل من أشكال الصمت.
اقرأ أيضاً: جورج طرابيشي: مغامرة تحرير العقل العربي