في افتتاح "المؤتمر السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية"، الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، أقيمت صباح اليوم محاضرتان عامتان، ألقاهما كل من المفكرين الفلسطيني الأردني فهمي جدعان واللبناني جورج زيناتي ضمن المحور الأول من محاور المؤتمر "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية".
بعنوان "مركّب أخلاقي حديث للاجتماع العربي"، كانت محاضرة جدعان، والتي عاد فيها إلى رصد بدايات تشكّل سؤال الأخلاق مع أوّل تمظهرات الفكر الفلسفي لدى اليونان. وقتها، جرى ربطها بقيم أخرى مثل السعادة والخير، وهو ارتباط عَبَر إلى العصور الحديثة بالمرور من حضارات متعددة، من بينها الحضارة العربية الإسلامية والتي يشير بخصوصها المحاضر أن مبحث الأخلاق "لم يَخلُص للفلاسفة باعتبار أن أطرافاً أخرى انشغلت به من متكلّمين وفقهاء ومتصوّفة فاختلطت شُعَب الإيمان بالمعاني الإنسانية".
كما يلاحظ بأن الحضارة العربية الإسلامية قد طوّرت "أخلاقاً عملية" بسبب تقارب السلطتين الدينية والسياسية، بحيث "جرى تقييد هذا بذاك". هذه الأخلاق العملية ستصبح بعض المعالم الرئيسة في الفكر السياسي لدى أهل السُنّة والجماعة.
على مستوى التطرّق العربي الحديث للمسألة، يلاحظ جدعان أن الفكر الأخلاقي لم يحظ باهتمام خاص، باستثناء أعمال ذات نزعة تربوية، ولم يصل إلى درجة السجال، مشيراً إلى تواصل هيمنة الخطاب الدعوي إلى اليوم، وهو ما يفضي إلى "محصّل" ينعته جدعان بـ "الكلاسيكي". ظل الفكر الأخلاقي العربي بحسبه يتقلّب في حدود نظرية، ولم يخرج سوى بخيارات واجتهادات مُشخصّة لها مسوّغاتها ومظانُّها المتعلقة بشروطها الوضعية.
يرى جدعان أن الفكر الأخلاقي ينبغي أن يلتفت إلى "التطوّرات الكونية" والتي أحدثت عالماً جديداً برؤية جديدة للعلم والبيئة تخضع لمؤثرات مثل الاقتصاد والبيولوجيا والسياسة ووسائل الاتصال والفنون. ينتج ذلك قيماً جديدة لا سبيل إلى تجاهلها، وهي التي تمسّ قيماً أساسية مثل العدالة والكرامة والحرية وجودة الحياة والمواطنة والاعتراف والجمال.
في كل ذلك، يثار السؤال الأخلاقي بحسب جدعان بإهاب جديد، من دون أن يقطع تماماً مع معاني الخير والسعادة (موضوع الأخلاق النظرية)، وفي الأثناء لم يعد العلم مطلقاً وهو اليوم مدجّج بالتقنية وقد تورّط هو الآخر في السؤال الأخلاقي، ما يضعه في مسارات جديدة.
يعنى ذلك بالنسبة إلى جدعان أن الفلسفة النظرية الأخلاقية باتت اليوم "مدعوّة لتوسيع آفاقها وإشراع البوّابات" بما يسمّى بالأخلاق المُطبّقة التي تتسلّح بمدوّنة أخلاق سلوكية.
يختم جدعان باعتبار أن "السؤال الأخلاقي لا يقل خطراً عن السؤال السياسي الذي خصّصنا له اهتماماً"، معتبراً أنه من الضروري "سبر واقعنا الأخلاقي سبراً خلدونياً واستشراف منظومة أخلاقية ضابطة وفي الوقت نفسه مرنة ورحيمة".
في المحاضرة الثانية، والتي حملت عنوان "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية وبعض قضاياه في عصر العولمة"، فضّل جورج زيناتي التحرّر من ورقته والحديث بنظام تداعي الأفكار، في شكل "حوار" بحسب تعبيره، معتبراً أن تناول سؤال الأخلاق في الحضارة العربية وصولاً إلى اليوم يمكّنه من مسح خمسة عشرة قرناً، كما يتضمّن ذلك رؤية للعلاقة بين الغرب والشرق بوجهيها: تكامل أو تناقض.
يوضّح زيناتي بأن "العولمة بالنسبة إليه لم تحصل اليوم فقط، فقد أنتج اليونان عولمة بشكل ما واستأنفها العرب لاحقاً مع تغذيتها بروافد أخرى"، مشيراً الى أن العلوم تجد دائماً من يحتضنها وصولاً إلى "العولمة الحديثة والتي ألغت مسافات الجغرافيا ولكنها لم تستطع إلغاء المسافات البشرية أي على مستوى التاريخ"، ليختم باستعارة من أستاذه بول ريكور "من أجل التغلّب على الزمن ليس هناك سوى الذاكرة السعيدة" لافتاً إلى أن ما يسمى بـ "عصر الظلمات" (العصور الوسطى) لم يكن عصر ظلمات في الحضارة الإسلامية بل إنها ساهمت في إنارة "عصر الظلمات الأوروبي"، ويجدر بها أن تلعب هذا الدور مجدّداً في "عالمٍ رغم تطوّره ما زالت تحدق به الأخطار وتنهشه الانقسامات".