"ها هو، رجل من القرن العشرين يعيش في الجزر الهندية وفي بوسطن، يمشي بين البحر الأزرق وأسماكه الحقيقية، بين الصواريخ ورؤوسها الحربية، بين ثقافة كولونيالية انتهت صلاحيتها والشمال الصناعي، بين أفريقيا والغرب، بين العبودية والفكر، بين اللسان الكاريبي الأم والإنكليزية التي تُعلّمها الكتب، بين الأبيض والأسود في جسده هو ذاته، بين صوت المحيط في بلاده ونداء الثقافة الأوروبية"، فقرة صغيرة يلخص فيها الشاعر والروائي الأميركي جيمس ديكي (1923-1997) ثنائيات صديقه ديريك والكوت (1930-2017) الذي رحل أول من أمس في منزله الكاريبي على جزيرة سانت لوسيا عن 87 عاماً.
ثنائيات الشاعر التي جعلت من قصيدته مُهجّنة الهويات والمعنى، هي الثيمة الأساسية التي اشتغلت عليها معظم الدراسات التي تناولت شعر والكوت العظيم، وهو عظيم ليس لأنه جميل ولا لفرادة وغرابة الحالة الشعرية لديه وندرتها، بل لأنه عمل ينتمي إلى الشغل الثقافي العميق (بمعنى الكلمة)، وهو شعر عالمي وإنساني لأنه ينتمي إلى أعمال نادرة ظهرت فيها الكتب المقدّسة وامتزجت بالأساطير الإنسانية والواقع، وبتاريخ بلاده وتاريخ المستعمِر وتاريخ العالم.
سنقرأ لـ والكوت تاريخ وصول العبيد من أفريقيا إلى الجزر الكاريبية، وهو يصفه بالتوازي مع أحداث "سفر التكوين"، جاعلاً من البحر مسرح الأحداث الأولى، البحر الذي يتعامل معه بوصفه أرضاً شهدت تراجيديا ورحلة العبيد ونقلهم ومن مات منهم أو غرق في الطريق وتحوّل إلى مرجان يستلقي على سرير البحر. يقول إن ثمة "قبواً رمادياً" في البحر وفيه تاريخ الشعب الكاريبي.
ثمة مقابلة بين الطبيعة التوسّعية المتعدّدة للبحر وبين تعقيد التاريخ الكاريبي وما عاشته من عبودية واستعمار كما ترى الهندية ندهي ماهاجان في مقال بعنوان "التوترات الثقافية والهويات الهجينة في شعر والكوت"، لافتة إلى أن والكوت لم يسع إلى حل هذه الازدواجية بل إنها ظلت مسألة عالقة وكل ما حاول فعله هو بناء وعي سياسي وتاريخي وشعري حولها.
وهذا ما يظهر في قصائده "صرخة بعيدة لأفريقيا" (ظهرت في مجموعته الأولى "في ليل أخضر"، 1962) وقصيدته "أسماء" (من مجموعة "عنب البحر"، 1976) وفي "البحر هو تاريخ" (من مجموعة "مملكة التفاحة النجمة"، 1979).
لا يمكن تلقّي شعر والكوت وحب تعقيداته وصعوبته من دون وضع هذا الشعر في السياق التاريخي الذي كُتب فيه واستُلهم منه، حيث تعيش هذه القصائد على فكرة واحدة وهي محاولات تفكيك ومراجعة هذا التاريخ الخلاسي لجزر الكاريبي.
كانت هذه الجزر مستعمرة من قبل البريطانيين والفرنسيين والهولنديين. وأحضر المستعمر معه العبيد من أجزاء مختلفة من أفريقيا، وحين تم إلغاء العبودية عام 1863، بدأ المستعمر باستيراد أيد عاملة من الهند والصين. من هنا عاش سكان الكاريبي الأصليون (لم يُعترف بوجودهم) والعبيد والعمال أسوأ الأوضاع.
ينتمي والكوت إلى أبناء هؤلاء الذين لم يعيشوا المنفى والاستعباد بشكل مباشر، لكنهم ورثوا الشُعورين الشقيقين بالاغتراب والانتماء، والانقطاعات الهوياتية والتاريخية التي خلفها الاستعمار والتي حوّلت المجتمع الكاريبي إلى مجموعة من الدياسبورات المتعدّدة.
في قصيدته "صرخة بعيدة من أفريقيا"، يكتب والكوت "أنا المسموم بدم الاثنين، لأي منهما ألجأ، وأنا المقسوم حتى الوريد؟". إنها مواجهة مع التاريخ والذات، ليست بعيدة عن اللاوعي الجمعي للسود الذي تحدّث عنه فرانتز فانون، يقول والكوت "مسموم"، مفردة تحمل الشعور بالمرض والسأم والشر. وفي قصيدة "أسماء" يقول إن "عرقه" يبدأ بتلك "الصرخة" بلا أسماء ولا أفق يبدأ بلا ذاكرة ولا مستقبل.
بالنسبة لـ والكوت إنه ليس بحاجة إلى تخيّل عوالم ونماذج شعرية، إنه متأمل كبير في واقعيات إنسانية حيّة، أولئك الذين وصفهم في خطابه لدى تسلّم نوبل (1992)؛ "وجوه الحطابين" التي تشبه في صلابتها ولونها وقدمها وجوه شجر الماهغوني الاستوائي، "صيادو السمك"، ورجل يمسك سيفاً ويقف إلى جواره كلب، أُجَراء في شاحنة، شظايا أصلية من أفريقيا لكنها صُقلت وصيغت وجُذرت في حياة الجزيرة، وفقاً لتعبير والكوت، أميّون، ليسوا هنا ليقرأوا ولكن لتتم قراءتهم، ولو كانوا يقرأون لكتبوا أدباً يخصّهم.
وفي الحقيقة، إن أدب والكوت يخصّ كل هؤلاء، وقد استطاع أن يرى الواقع البطولي في الحياة العادية الشقية للعمّال المحمولين في شاحنات نقل بملابسهم الرثة ووجوههم البنيّة، متماهياً معها، "أحدهم يزرع الموز، آخر يزرع الكاكاو. أنا أزرع الأسطر" إنه فلّاح أو عامل في منجم، الفرق أن خامته اللغة وإنتاجه هو الأدب.
الغرور الإنكليزي جعل ناقداً يصف شِعره بأنه شِعر إنكليزي عن حياة الناس الآخرين، يتصادى مع أصوات الناس الآخرين، لكن الحقيقة إن شعر والكوت ليس إنكليزياً ولا يمكن أن يكون كذلك، ولا يمكن أن ينتمي إلى لغة أو أدب بعينه، بل إنه يطيح بموضوعه وجروحه الثقافية والهوياتية ولغته وطبقاته وتعدّد مصادره بأية هوية، وربما في هذا الوصول إلى قصيدة والكوتية الانتصار الشعري لحامل هذا الألم على الكولونيالية.
هجنة الأسلوب
كان والكوت يطلق على نفسه "مولاتو الأسلوب" والمولاتو هو الهجين بين الأعراق: الأبيض والهندي والأسود. أكثر أعماله الطموحة شعرياً على صعيد الأسلوب هو "أوميروس" التي كتبها عام 1990، والمستلهمة من الأوديسا والإلياذة، وتدور على الأرض الكاريبية، ومنها: "لست إلا زنجياً أحمر يعشق البحر/ تلقّيت تعليماً كولونيالياً سليماً/ الهولندية، والزنجوية والإنكليزية في داخلي. وإما أنني لا أحد أو أنني أمّة".