في ذكرى رحيله الحادية والثلاثين التي تصادف اليوم، يُستعاد الشاعر ورسّام الكاريكاتير صلاح جاهين (1930 – 1986) الذي آمن مع رموز مرحلته الآتين من الأطراف النائية في مصر ومن الأحياء الفقيرة في مدنها بثورة جمال عبد الناصر. جاهين مع بليغ حمدي، المثال الأبرز موسيقياً، ويحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل في القصة والشعر، ربما تكون النماذج هذه تحديداً جديرة بالدراسة لا غيرها ممن كانت "ناصريتهم" محض وظيفة أو كانوا أقدر على فصل تاريخهم الشخصي ومآلاتهم عن "الأب" وصورته الطاغية.
بحَث بليغ عن حبٍ لم يجده، وعن موسيقى تشبه الناس، فانتهى إلى تلحين أردأ الأغاني وإلى المخدرات والنساء وجلسات الأنس التي تتسع لألف صديق، ورحل عن 62 عاماً، بينما ظلّ يحيى شارداً عن المدينة إلى جنوبه حتى لقي حتفه في حادث سير وهو في الثانية والأربعين. أما دنقل فلم يحتمل ضياع النصر ففتك المرض بروحه الهشة وغادر الحياة في الثالثة والأربعين وهو يستمع إلى أغنية صعيدية قديمة تذكّره بنجوع قنا البعيدة.
إلى جوار أولئك، كان جاهين مستسلماً أكثر إلى الطفل الذي في داخله، يختبئ عن الناس كلّما لم يستطع أن يواجه فاجعة أو فقْد قريب، واحتال على نفسه وعلى السلطة التي يخاف رأسها ويحبّه في الوقت نفسه، فكتب "الرباعيات" التي احتملت هجاء مبطّناً وقدرة على المداراة وتأويل معانٍ كثيرة للحقيقة ذاتها.
في الخامس من حزيران عام 1967، تكاشف صاحب "على اسم مصر"، للمرّة الأولى مع الوهم/ الحقيقة فقرّر الهرب إلى "تراب دخان"، فكتب في قصيدته:
ضاع القمر مني وأنا غفلان
وصبحت يا إخوان
لا بدّ ما يتشحتفوا عينيه
علشان أطول منه شعاع من ضي
وأديني ماشي لوحدي فى الشارع ..
معرفش رايح فين، لكن ماشي
والليل عليه وع البلد غاشي
ولقيت فى جيبي قلم ..
كتبت به غنوة عذاب.
زادت الكلمات تيهاً، فأراد هروباً أكبر ولم يجد غير السينما الاستعراضية، وعرّابها المخرج حسن الإمام، ملاذاً، يريد أن يقول فيها كلّ شيء، ولا يقول شيئاً. سيكون هذا أدقّ وصف لفيلم "خلّي بالك من زوزو" (1972)؛ ومثال ذلك كلمات الأغنية التي كتبها له: "فاز بالعروسه عريس موعود.. قدها وقدود/ هي الكمنجه وهو العود.. يلعبو الإثنين/ آه يا ليلي يا عين/ صلي صلي على الزين/ وخلي بالك من زوزو زوزو.. زوزو/ خلي بالك من زوزو زوزو.. زوزو النوزو كونوزو/ اسمع غناها .. وافهم لغاها دى زوزو دي كلام هنعوزو".
أشار كثيرون إلى أن العمل الذي جمع بين شاب ثري (حسين فهمي) وفتاة فقيرة (سعاد حسني) في قصة حبّ تنتهي بوئام وسلام، كان ينتقد فيها أكبر خديعة تعرّض لها الفقراء الذين وعدهم "الريّس" بجنة على الأرض لا في السماء، لكنهم بقوا في قاع السلّم الاجتماعي ووقوداً للحرب الخاسرة ونهباً لأحلام لا تتحقّق، وغيرها من الأمور التي تجنّب الفيلم ذكرها، بل وتحاشى أن يحدّد الزمن الذي يعيشه أبطاله.
ومضى "شاعر الثورة" أبعد من ذلك، عندما أيّد ذهاب السادات إلى السلام، ودافع عن سياساته التي عارضها كثيرون من رفاقه. وكلّما ظنّ أنه نجا من خسارته، ألجمه الصمت وحاصرته الكآبة أكثر حتى لم يجد من يُعبّر عن قلقه سوى أحمد عدوية، فكتب له أغانٍ عديدة، منها "مجنون مجنون سيبوني".
لم يستطع أن يذهب إلى جنون يحميه، فانتحر في الحادي والعشرين من نيسان/ أبريل عام 1986 – الرواية التي حاول كثيرون إنكارها-، وهو المصير ذاته الذي لاقته سعاد حسني عام 2001، والتي شكلّت أكبر دهشة في حياته قبل أن يفقد التفاعل وإنتاج مزيد من أعمالٍ معها تنسيه جرح الهزيمة وأثرها.