استيقظ الخليج العربي قبل أكثر من أسبوعين، على تطورات سياسية غير مسبوقة في المنطقة، وفي الأعراف الخليجية. إذ قررت كل من السعودية والإمارات والبحرين قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجارة قطر، وإغلاق كل الحدود والمنافذ بريا وبحريا وجويا. وقد سبق هذه الإجراءات حملة إعلامية واسعة النطاق شنتها بالأساس وسائل إعلام سعودية وإماراتية، أو أخرى تمولها. حالة التصعيد هذه بدت متناغمة سياسياً وإعلامياً بحيث لا يكاد المرء يجد ممن ينتمون لهؤلاء من يغرد خارج السرب.
لكن هذا الأمر لم ينسحب على مواطني هذه البلدان أنفسهم، وكثير من النشطاء خصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث برز مثلا وسم #الشعب _الخليجي _يرفض _قطع _العلاقات _مع _قطر منذ الساعات الأولى، وهو ما دفع بسلطات السعودية والإمارات إلى إعلان عقوبات قاسية قد تتخذ في حق كل من يعلن عن تضامنه مع قطر.
وإذا كان "مفهوما" إلى حد ما اصطفاف السياسيين و"الإعلاميين" (لارتباط وجودهم سياسيا وماليا وقانونيا بالحكومات) في هذه البلدان في صف واحد مع قرارات السلطة، فإنه يبدو غريبا لمن لا يعرف المنطقة كثيراً، وقوف قسم كبير ممن يصنفون تحت خانة "المثقفين" خلف السلطة من دون ذرة شك أو توجس أو نقد، واستهلاكهم وتكرارهم للبروبغندا الإعلامية نفسها والتي لا تستند إلى وقائع على الأرض بقدر ما تستند إلى حالة من العبث والفجور الذي قد يصعب إدخاله في خانة السياسة.
مغردون وقارعو طبول
"مثقفون" كثر اقتصر دورهم على "إعادة التغريد" لا التغريد، لكل ما يدعم توجهات معسكرهم (حتى تغريدات ترامب الغريبة!)، وهذا مجاز لمّاح لدور ترديد الآراء الذي يلعبه هؤلاء.
كما كتب العديد منهم افتتاحيات ومقالات رأي في الصحف المحلية والعربية الممولة سعودياً وإماراتياً، فعبد الرحمن الراشد الذي كان إلى وقت قريب يترأس تحرير "الشرق الأوسط" (لم تعد تختلف كثيراً عن جريدة عكاظ الصفراء)، ربط في الجريدة نفسها بين خطابي الحصار لكل من حركة حماس في غزة، وقطر حالياً، وقال حرفياً إن قطر تصور الحصار على أنه: "عقوبات موجهة ضد المواطن القطري، تستنسخ لغة نظام صدام قديماً، وحماس حالياً". أولم يكن العراق محاصرا؟ أليست غزة محاصرة؟
يضيف الراشد في نهاية مقاله "أما محاولة تقليد غزة، واستعارة خطاب حماس لاستعطاف الرأي العام العربي والعالمي، فلا يناسب صورة قطر"، ليصبح هنا حصار غزة، ومطالبة حماس وغيرها بإنهائه مجرد خطاب استعطافي. وحتى عبده خال الكاتب السعودي، حائز جائزة "البوكر" للرواية العربية في إحدى نسخها الأولى، أبى إلا أن "يرمي بشرر" هو الآخر ويتجند لكتابة سلسلة مقالات غثة وسطحية تضمن له "مكانة ثقافية" في كورال الردح.
وقد لا يبدو هذا الأمر مفاجئا لمتابع الشأن العربي منذ بدايات ثورات وانتفاضات 2011، إذ إن الأسماء هذه نفسها هي من كانت في الصف المعادي للتغيير والداعم فيما بعد لموجات الثورات المضادة.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى مهاجمة هؤلاء "المثقفين" (على اختلاف أطيافهم وقبعاتهم السياسية التي يدعونها) لزملائهم ممن لا يشاركونهم حملة الهجوم والتطبيل هذه، فهم لا يواجهون الأجوبة العقلية والأدلة المنطقية، بمثيلاتها بل التخوين وقتل الصور المعنوية للمخالفين، كما يرددون نفس المسكوكات الإعلامية (ولا يستحون لتحقيق هذا الغرض من استخدام مواد إعلامية لمواقع ومؤسسات غربية يمينية أو حتى إسرائيلية)، كما يحصل في حالة العداء والهجوم الدائم الذي يتلقاه المفكر العربي عزمي بشارة لمحاولة صد تأثيره الفكري، ولمجرد أنه وقف في صف الثورات، وأسس مشاريع علمية وبحثية تدافع عن التغيير في المنطقة العربية ككل.
أصوات "مثقفة" أخرى ذهبت إلى حد غير مسبوق من التجريح في المواطنين القطريين وليس السلطات السياسية فحسب، بل إن التجريح يطاول كل المقيمين في البلاد. ووصل الأمر حد الشماتة الرخيصة، إذ تناول بعضهم ادعاءات تزاحم السكان (وهي حالة شبه عادية لبعض مولات الدوحة) على التموين الغذائي، ونفاد المواد الاستهلاكية من المتاجر، خصوصا بعد تقرير مغرض أذاعته "العربية"، وأعاد تغريده مديرها "المثقف" وباقي الجوقة.
كما أن مسألة دعم حركة المقاومة حماس، أصبحت محسومة لدى بعض مدّعي الثقافة في الخليج، ولم يعودوا بحاجة إلى إخفاء آرائهم منها وتلبيسها جملا مناوِرة، فكثير منهم، خصوصا في الإمارات، أصبح يدعو علانية إلى ضرورة التنسيق العربي والخليجي مع دولة الاحتلال، دونما أي خجل واعتبار لوضع الشعب المحتل في فلسطين، وأحقيته في خيار المقاومة والصمود.
هوامش صغيرة لصوت العقل
غير أن أقلية من المثقفين والنشطاء، فضلوا عدم الانسياق وراء هذه الدعاية الإعلامية، وحاولوا إيجاد منطقة وسطى، ففي بيان نشر على الشبكة مساء يوم الأربعاء 7 يونيو/ حزيران، أعلن مجموعة من النشطاء السعوديين، كتاباً ومثقفين وإعلاميين، عن تخوفهم من تهديد الأزمة الحالية على أمن واستقرار منطقة الخليج، طالبين من قيادتهم عدم الانسياق نحو تمزيق المنطقة و"السير باتجاه أوهام وأكاذيب زينها عدونا تجاه دولة قطر الشقيقة".
واستنكر البيان جرّ مواطني السعودية إلى حالة الاستقطاب الحادة هذه، وإلى العداء مع قطر، التي أصبح فيها السعودي "مطالبا بمهاجمة إخوته القطريين الذين تربطه بهم روابط الأخوة والمصاهرة والامتداد التاريخي والجغرافي الواحد"، ودعوا السياسيين إلى التصرّف بمزيد من الوعي.
أشار البيان إلى الدور الإماراتي السلبي الذي تنجرّ إليه السعودية بالقول "قد أصبح واضحاً للعيان؛ حتى قبل نشر تسريبات السفير الإماراتي، أن هناك دُولاً في الخليج لا تُفكر سوى بمصالحها ولا تُنفذ إلا مخططاتها". ودعا البيان في ختامه إلى إرجاع العلاقات مع قطر، وإيقاف المهاترات الإعلامية، وتوحيد الجهود ضد الأعداء الحقيقيين. طالبا من المجتمع السعودي عدم الانسياق وراء هذه الحملة، والالتفات إلى رأب الصدع لا تعميق الأزمة.
في السياق ذاته، عبّر عدد من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين وشخصيات أخرى خليجية هذه المرة (وليس سعودية فقط)، في عريضة أخرى (تعدت 200 توقيع)، عن قلقهم تجاه ما يحدث في الخليج، وعزوا أسبابها إلى "غياب صوت المواطن في المشاركة في اتخاذ القرار، والعمل المنهجي على توطيد التكامل بين أقطار دول مجلس التعاون".
وطالبت العريضة باللجوء إلى حلول الوساطة وتحكيم لغة العقل، وتوقيف تعليق حرية التنقل والإقامة في الخليج والتراشق الإعلامي، وأكدت مطالب المشاركة الشعبية الفعالة في صناعة القرار، في ظل أنظمة ديمقراطية، بما ينساق مع تاريخ وطبيعة منطقة الخليج.
ونحا عديد من مثقفي عُمان والكويت، إلى لغة العقل، فيكتب الشاعر العماني عبد الله حبيب على صفحته، أن المثقفين دائما ما يمارسون دورهم في الخذلان أوقات الأزمات وأن "على الشرائح الديموقراطية في المنطقة الاهتمام بهذا الشأن الإنساني والأخلاقي أولاً؛ إذ إن للكوارث مهندسيها المحترفين في القنوات الفضائية وأقبية السياسة العفنة، على تلك الشرائح أن ترفع البطاقة الحمراء ضد تلك الممارسات".
لكن رغم هذه الأصوات، يبقى المشهد قاتماً وتبقى الثقافة في الخليج هشة أمام هيمنة أنظمة سلطوية لا ترى في الثقافة أكثر من ديكور ورجع صدى هزيل لمقولاتها البائسة.
كل شيء إلا سلامة الوطن!
من جهة أخرى، وفي حركة غير مسبوقة عربياً، ولا حتى نحو العدو الصهيوني، أصدر "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات" تعميماً على "مثقفي البلاد" و"مؤسساتها الثقافية"، يأمرهم بالقول: "على جميع الكتاب والأدباء والمثقفين والعاملين في حقل الكتابة والإبداع في دولة الإمارات عدم التعامل مع أي جهة قطرية أفراداً ومؤسسات، داخل الدولة أو خارجها".
ويبرر "رئيس مجلس إدارة الاتحاد" المذكور حبيب الصايغ، ذلك بالقول "إن الأمر حين يتعلق بسلامة الوطن وأمنه واستقراره، فإن الحسم يصبح ضرورياً ولا مجال عندئذ للتردد والتلكؤ، ولا بدّ من سدّ كل ما يمكن أن يستغل للعبث بسلامة الوطن وأمنه". ولا يبدو هذا الموقف غريباً جداً، ولا يمكن اعتباره الا جزءاً من الفجور الذي تسبح فيه الأدوات الإعلامية الإماراتية والسعودية، منذ بداية الأزمة الخليجية.
"اتحاد الكتاب" الذي من المفترض أنه نوع من النقابة، التي من أهم أسسها الدفاع عن استقلالية المنضوين تحتها، والاستماتة في أخذ مسافة كافية من السلطة، بما يسمح بانتقادها، وممارسة الدور المفترض للمثقف في الوساطة المعرفية، اختار التنازل عن كل هذا (إن كان يملكه سلفاً)، والمشاركة في حملة الردح المتواصلة للأسبوع الثالث على التوالي.
وفي تناقض رهيب لا يبدو أنه انتبه إليه، يقول "الصائغ" لإحدى جرائد بلاده: "لا يوجد من يملي علينا قراراتنا في اتحاد الكتاب، وهذا هو قرارنا ولا نساوم ولا نجامل فيه أحداً، وإنما يعبر عن حقيقة كون الأدباء الإماراتيين هم دائماً وأبداً مع وطنهم وله يلتزمون بقضاياه ويحاربون التطرف والفكر الظلامي". أفليس ظلامية عنده وعند رفاقه من أشباه المثقفين، أن تحكم بلاده على الصحافي والشاعر الأردني تيسير النجار، بالسجن ثلاث سنوات وبغرامة ثقيلة، على خلفية تعليق ساخر على موقع للتواصل الاجتماعي لم يعجب أسياده؟
حالة الاصطفاف "الكاريكاتوري" هذه، تجعلنا نعيد التفكير في كل تلك "الفعاليات" الثقافية التي تقيمها هذه البلدان وتموّلها، والجوائز الكبيرة - مالياً بالطبع - التي تمنحها. فالثقافة هنا لا تعني ما نعرفه وما نرجوه لهذا الوطن من أقصاه إلى أقصاه. إنها تلعب على تنويعات الحفل، فإما احتفاليات ومهرجانات بهلوانية مليئة بالتصفيق، وإما "تحفيل" على جهة ما لا تعجب الأسياد. دور المثقف النقدي والعضوي والمناضل وغيرها مما يحيل على انخراطه في القضايا المجتمعية والسياسية الحقيقية، لا يجد له مكاناً بعد في بلدان "اتحادات كتاب" الحريصة على سلامة الوطن، وإن وجد ففي غياهب السجون أو المنفى.