من خلال مقال بعنوان "جيرالد برونر: كيف تنتقل المعتقدات من مجتمع لآخر؟"، نُشر في "العربي الجديد" في نهاية 2015، تعرّفتُ على اسم السوسيولوجي الفرنسي، وخصوصاً على مجال بحثه الذي يبدو لافتاً وجذاباً: علم اجتماع المعتقدات.
في ما بعد وحين اتفقنا على لقاء صحافي مع "العربي الجديد"، جرى اللقاء في مقهى "ليزيديتور" في حي الأوديون في باريس باقتراح منه. مقهى كثيراً ما يجلس فيه صاحب "حياة وموت المعتقدات" سواء للمطالعة أو للقاءاته المختلفة. وربما استفاد هذا اللقاء من ألفة محدّثنا مع المكان، بمكتبته وإضاءته الخفيفة وموسيقاه "القديمة"، وهو ما بدا عند حديثه عن اختيار تخصّصه.
يقول برونر (1969): "لقد عشتُ في سنوات شبابي الأولى تحت تأثير الكثير من المعتقدات، الدينية والسياسية والفنية وغيرها. كنت في نفس الوقت منغمساً فيها، وموزّعاً بينها بشكل فوضوي". ويضيف لـ "العربي الجديد": "كان كل ذلك عبارة عن محاولة عشوائية في فهم العالم، ثم أتى اختيار علم الاجتماع كتخصّص جامعي ليجعل من هذه الحالة منطلق مشاغلي البحثية. وأعتقد أن علم الاجتماع ساعدني في فهم نفسي، ومعتقداتي ومجادلتها".
أهمّ ما في هذه التجربة الشخصية أنها تكشف من الداخل كيف أن الإيمان بمعتقدات يجعل "من الممكن أن نؤمن بأفكار جنونية من دون أن نكون مجنونين"، بحسب تعبيره، وهذا جزء من الإشكاليات والألغاز التي يطرحها هذا الحقل الذي يعدّد برونر بعض إشكالياته، مثل "ما هي الظروف التي تجعل البعض يفكّر بطريقة وينبذ أخرى؟ وكيف تنشأ الرغبة في الاعتقاد ثم كيف تلغي هذه الرغبة الكثير من عقلانيتنا؟ وكيف يمكننا أن نترك معتقداً ونمرّ إلى آخر، سواء بشكل شخصي أو جماعي".
هذه الإشكاليات في المواضيع ترافقها إشكاليات خاصة بعلم اجتماع المعتقدات نفسه، والتي يرى برونر أن أبرزها تشتّت هذا المجال بين ميادين معرفية متعددة، من علم الأديان إلى الأنثروبولوجيا. يرى السوسيولوجي الفرنسي أن "كل هذه المجالات تنظر إلى المعتقدات من زاوية خاصة، وتقودها مناهجها إلى نتائج معيّنة. أما علم اجتماع المعتقدات فهو يبحث عن نظرية عامة للمعتقدات بغض النظر عن كونها دينية أو سياسية أو قناعة يومية صغيرة لا تنزل إلى ساحتها هذه التخصّصات العلمية".
على مدى 14 كتاباً أصدرها حتى اليوم، يمكن أن نلاحظ خطاً منهجياً في أفكار برونر، والذي يهدف في الأخير إلى بلورة "نظرية عامة للمعتقدات". بدأ ذلك منذ أوّل منشوراته "الشك" (1997) وهو مؤلفه الوحيد الذي تُرجم إلى العربية (منشورات عويدات، بعنوان "الشك والارتياب"، 1999).
عن هذا العمل يقول "هو في الحقيقة ملخص لرسالة الدكتوراه، وفيه بدأت مشوار البحث في المعتقدات من مفهوم الشك، على اعتبار أن المعتقدات هي محاولات مقاومة للشك. وقد اعتمدت نتائج من هذا البحث في كتاب "إمبراطورية المعتقدات" (2003، وهو كتابه الأشهر) على خلفية أن الشك يدفعنا لوضع فرضيات نجد لاحقاً أنها قد تحوّلت إلى معتقدات". بعد ذلك، سنجد مجموعة من المنشورات التي تستفيد مما وصل إليه في هذا العمل يظل أهمّها (على الاقل بسبب جماهيريته) كتابه "ديمقراطية السذّج" (2013) الذي يتناول بالدرس المعتقدات في المجال السياسي.
ربما بفضل مثل هذه التطبيقات، عرف علم اجتماع المعتقدات شيئاً من الشعبية والاهتمام الإعلامي في السنوات القليلة الأخيرة قلّما حظي بهما سابقاً. لكن السبب الأساسي من وارء ذلك يظل بروز قدراته التفسيرية لعدّة ظواهر من بينها التطرّف باعتباره قضية أساسية تشغل المجتمعات والسياسات اليوم، وهو موضوع أحد مؤلفات برونر.
يقول "نظرت إلى التطرّف كنظام أفكار وقيم صاعدٍ، وبالتالي فهو محرّك جديد في فضاء المعتقدات". هل يمكن ربط هذا الاهتمام المعرفي باهتمام جماعي؟ يردّ: "كان اهتمامي سابقاً للأحداث الإرهابية التي هزّت فرنسا في 2015 و2016. أنا درست المسألة من زاوية كيف تقلب المعتقدات الوقائع، فنفس العملية التي يقوم بها الإرهابي، هي في نظر المجتمع جريمة وفي نظره بطولة".
نُشر كتاب "الفكر المتطرّف" أول مرة في 2009، ولم يحظ بحسب مؤلفه بالمتابعة المأمولة، ثم أصبح تحت الضوء بعد عملية "شارلي إيبدو"، وبالتالي شهد طبعة ثانية في 2016. يعقّب هنا: "رغم أن هذا الكتاب ليس رد فعل إزاء قضية رأي عام، إلا أنني لا أعتبر الأمر سلبياً لو توجّه الباحث إلى موضوع أشبه بـ "موضة"، بل إنني أعتقد أن موجة الاهتمام بالتطرّف مؤخراً أمدّت البحث العلمي بدماء جديدة".
يشهد العالم تغيّرات متسارعة ليس أقلّها موجات الهجرة التي أفرزتها الأزمة السورية أو "البركسيت"، ثم مجيء رؤساء جدد في فرنسا وأميركا لهم طروحات مختلفة عمّن سبقوهم. هل لمثل هذه التغيّرات تأثير مباشر على مشهد المعتقدات؟ يرى برونر أن هذه الأمور، هي في نفس الوقت، تعبيرٌ عن تغيّرات في المعتقدات، كما أنها تنتج تغيّرات جديدة فيها.
لكنه يشير أن الأهم بالنسبة إلى علم اجتماع المعتقدات هو التساؤل "كيف تحدث هذه التغيّرات؟". على مستوى سياسي، يعتبر أن "الفترة الأخيرة عرفت حالة طلب في الساحة السياسية خلقت بالنتيجة عرضاً، جسّده مجموعة من السياسيين مثل ترامب وماكرون".
لكن على مستوى عام، يرى صاحب "إمبرطورية الخطأ" أن عامل التحريك الأساسي للمعتقدات اليوم هو وجود نسق سريع من المعلومات، وما يجري اعتباره كتغيّرات حادة ليس سوى أعراض لاختلال في "سوق المعلومة" باعتباره مجال تنقل للمعتقدات.
يوضح لـ"العربي الجديد": "في هذه السوق، يجري تمرير المعلومات وفبركتها (أفكار، أحداث، أرقام، صور..)، ومنذ أن تشدّ هذه المعلومات الانتباه حتى تقوم بمفعولها بغض النظر عن محتوياتها".
يشير هنا أن "الخطير في المسألة هو تحوّل عدم الالتزام بالحقيقة إلى امتياز في السوق"، ويضرب مثلاً بالفترة الانتخابية الأميركية الأخيرة، حيث أن "كلينتون تحدّثت بانضباط سياسي أكبر، وقدّمت تصوّرات أفضل من التي قدّمها منافسها، غير أن الأخير استفاد من شدّ الانتباه أكثر، كان يقول أي شيء ويسقط في أخطاء ويقتحم مواضيع مثيرة للجدل. قد يبدو ذلك مجموعة من الهنات في خطابه السياسي، ولكن كان هذا هو المطلوب في اللعبة. ببساطة، لقد ربح ترامب معركة شد الانتباه في الحملة الانتخابية، فيما ربحت كلينتون معركة الطرح الرصين، والنتيجة كانت لفائدة الأول".
نشر برونر أيضاً ثلاث روايات، بالرغم عن ذلك يقول: "لا أعتبر نفسي روائياً، أعتبر نفسي شخصاً يحب سرد الحكايات". ويضيف "المفارقة أن كثيرين يعتقدون أن خلفيتي السوسيولوجية تساعدني في الكتابة الروائية، ولكنني أجد العكس أصح، حيث أن الرواية وممارسة كتابتها تساعد كثيراً البحث العلمي".
يعتبر برونر أن من بين أهداف علم اجتماع المعتقدات "المساعدة في بناء أدوات لبلوغ استقلالية فكرية وعقائدية أي أن تكون أفعالنا ملكاً لنا وليست موجّهة". لكنه يلاحظ أن ثمة ركوباً على الفكر النقدي، ويعطي مثالاً على ذلك القائلين بـ"نظرية المؤامرة" والتي لا تعدو أن تكون "عكازات فكرية" تساعد في تجاوز العجز عن تفسير تعقيدات العالم. باختصار، بالنسبة له "نظرية المؤامرة فكر نقدي مغشوش".