أحب هذه العلاقة الملتبسة بين التاريخ والرواية وكل أشكال القص عموماً. وأكثر ما يستهويني في هذه العلاقة هو أنها لا تتخذ دائما شكلا واضحا يتيح لنا إمكانية الفصل بسهولة بين ما هو روائي وما هو تاريخي في العمل الأدبي، فهي تتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق وأكثر غموضا وتخفيّا في الآن ذاته. ثمة تواشج وتداخل وتقاطع بينهما.
ويمكننا أن نلمس ذلك في مؤلفات بعض المؤرخين العرب القدامى مثل كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" للمصري عبد الرحمن الجبرتي الذي يتضمن فقرات كاملة يخيل إلينا ونحن نقرأها أنها مقتطفة من رواية قديمة.
لم يكن المؤرخ العربي القديم مؤرخاً فقط بل كان أيضاً "روائيا" على طريقته، ففي التاريخ رواية. لكن في الرواية أيضا تاريخ. لسنا مرغمين إذا أردنا أن نقبض على جوهر حقيقة روسيا العميقة في القرن التاسع عشر مثلا أن نقرأ كتب التاريخ. يكفي أن نقرأ تولستوي أو دوستويفسكي بل وربما قصة واحدة من قصص تشيكوف لكي نمسك بما هو أساسي فيها. وهذا الأساسي الذي يمكن لرواية واحدة أن تقوله قد لا تقوله كل مؤلفات مؤرخي تلك الفترة.
يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن الرواية العربية. إن قراءة روايات محفوظ كافية للإمساك بما هو أساسي في تاريخ مصر الحديث وإن كانت الأحداث في أغلبها تدور في فضاءات القاهرة.
وفي "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف نجد توصيفا دقيقا وعميقا للتحولات التي شهدتها مجتمعات الجزيرة العربية بعد اكتشاف النفط. وفي تونس نشر البشير خريف عام 1969 رواية عنوانها "الدقلة في عراجينها" تدور أحداثها في مدينتي نفطة والمتلوي في الجنوب التونسي. الحوارات كلها مكتوبة بالتونسية المحكية وتحديدا بلهجة أهل الجريد. ومع ذلك فإن هذه الرواية تختصر إلى حد ما تاريخ تونس الحديث في صراعها مع الاستعمار الفرنسي. ونجد الشيء ذاته في "المتشائل" لإميل حبيبي التي تختزل مأساة الشعب الفلسطيني.
كل روائي هو مؤرخ بمعنى ما إذا عرف كيف يصغي إلى نبض الواقع. إذا عرف كيف يلتقط إيقاعه. كل روائي يؤرخ وهو يكتب لأننا لا نكتب في النهاية إلا عن الماضي. فالماضي هو الزمن الوحيد الذي نمتلكه حقا كما يقول بورخس. المستقبل هو زمن مؤجل وقادم باستمرار. أما الحاضر الذي نوهم أنفسنا بأننا نسيطر عليه فهو زمن دائم الانفلات ولا نكاد نعيه فما إن يحضر حتى يتحول إلى ماض.
كل من الروائي والمؤرخ يشتغل على الواقع. لكن هناك اختلاف كبير في مقاربة هذا الواقع. في استيعابه وتمثّله. المؤرخ المهووس بالدقة والموضوعية وبالحقيقة معنيّ بالأساس بما هو عام ومشترك، بالذات الجماعية. بالتوجّهات الكبرى التي يمكنها أن تعكس الحقيقة أو ما يشبهها في مجتمع ما في زمن ما. أما الروائي فهو معني أساسا بالذات الفردية وهي تتدّبر أمر حياتها في متاهة الأمكنة والأزمنة.
واقع المؤرخ غالبا ما يكون موضوعيا أحاديّ البعد، أما واقع الروائي فهو حميمي متنوّع متعدّد عموما. الواقع في الرواية يحضر بكل مستوياته وتلويناته وتناقضاته وتعقيداته وغموضه وتحوّلاته التي لا تنتهي. إنه واقع مشرع ولانهائي إذ لا وجود للنهاية في الإبداع فكل نهاية هي بداية. ولا وجود للحقيقة فكل لحظة لها حقيقتها. إن جزءا هاما مما لا يقوله التاريخ تقوله الرواية.