من الطبيعي أن تكون هناك آليات اختيار لتوقيت أي سوق، وربما يكون الطقس في هذه الأشهر أوضحها، وفي هذا يتّفق ازدحام روزنامة المعارض العربية والغربية. لقد أصبح معروفاً في وسط النشر العالمي أن هناك معارض تهيمن على السوق العالمي وعلى الأسواق الإقليمية، كل معرض في منطقته، وفيها تجري أفضل الصفقات مع الكتاب المشاهير ودور النشر الكبيرة وتقدّم الصغيرة أيضاً نفسها، إلى جانب اتفاقيات الترجمة، من بينها فرانكفورت ولندن وطوكيو ودلهي، ويبدو أن مدناً مثل القاهرة وبيروت خرجت من لعبة المنافسة منذ زمن، رغم أن معرضيهما هما الأقدم عربياً، ورغم أن المدينتين شكّلتا مركزية ثقافية ذات خصوصية في الذاكرة العربية، وتضمّان إلى اليوم دور النشر الأساسية التي ما زال يطمح كتّاب عرب كثيرون إلى النشر فيها، إذ لم يذهب سحر القاهرة وبيروت تماماً من مخيّلة الكاتب، لكن السوق يقول شيئاً آخر، ولا يكترث بالذاكرة وسحرها. فهل يمكن القول إن صناعة الكتاب العربي تحدُث في مكان وتسويقه في مكان آخر؟ فبخلاف مشاريع الترجمة في دول الخليج مثلاً، لم تظهر إلى اليوم دور نشر تنافس الدور المصرية واللبنانية في إقبال الكتّاب عليها.
تطلق مختلف معارض الكتب الأساسية على نفسها لقب "دولي"، وهذه مسألة تحتاج إلى نظر، فهل المقصود بها إمكانية حضور دول مختلفة أم المشاركة الفعلية؟ وما هي دور النشر الدولية المشاركة؟ ما هي طبيعة إنتاجها؟ وكم عددها وماذا تضيف إلى القارئ العربي الذي تتوجه إليه في مدينته؟ يكفي أن يوضع جناح واحد لدار نشر أجنبية تقدم كتب الأطفال (المهمة طبعاً) ليتسمّى المعرض بما ليس فيه.
أن يكون المعرض دولياً يعني أن يتحوّل إلى خلية نحل حيث يمكن أن تصادف كتّاباً من مختلف الثقافات في ردهاته، فهل ينطبق ذلك على معارضنا؟ ونحن نقرأ إعلانات حفلات تواقيع الكتب مثلاً في "معرض بيروت"، كم سنجد من كاتب أجنبي بينها؟ بل من كتّاب عرب غير لبنانيين؟ وماذا عن برنامج الندوات؟
على صعيد آخر، تعلن المعارض عن مئات دور النشر المشاركة فيها، وتفتخر بزيادة الرقم كل عام، لكن ما هي نسبة الدور التي نراها فعلاً؟ كيف يجري ترتيب الأجنحة؟ لماذا توجد أجنحة أوضح وأكبر وتتصدّر المدخل في مقابل أجنحة أقل "وضوحاً" نصلها بعد أن يقرّر كثيرون منّا البحث عن بوابة الخروج من المعرض؟
كانت مديرة تسويق "معرض لندن للكتاب"، إيمّا لوو، قد صرّحت سابقاً: "من واجبنا أن يكون الكلّ مرئياً". إلى أي حدّ يمكن تصديق ذلك؟ إنه أمر يكاد يكون مستحيلاً، خصوصاً حين نعرف أن هناك تسعيرة لكل زاوية، من "الجزيرة" التي تقف بين ثلاث ممرّات، وهي الأعلى سعراً، إلى "الكورنر" الذي يقف بين ممرين، وصولاً إلى الجناح البسيط. كل تسعيرة تؤدّي إلى زاوية أوسع أو أضيق، وتوجّه الزائر كما تريد.
عادة ما يتجه القارئ إلى دور معيّنة، كان يثق بها في فترة ما، لنقل مجازاً إنه كان يشتري منها وهو "مغمض". كانت هذه الدور صعبة المنال على الكتّاب، ولا تقبل نشر أي كتاب دون مستوى معيّن، لكن جرت السنين وأصبح معظم هؤلاء الناشرين فاقدين للمصداقية. وربما تكون أصعب العادات تغييراً تلك التي تتعلق بالقراءة، فصناعة الكتاب لا تقدّم سلعة استهلاكية يومية، و"المنتجات" الجديدة فيها غالباً غير مجرّبة، وفي غياب عروض كتب يثق القارئ بها، يذهب إلى المعرض ويعتمد على حاسة بناها مع الخبرات وأحياناً ينساق وراء الإشاعات التي يطلقها أصدقاء الكاتب على فيسبوك.
كلُّ معرض كتاب يشبه إلى حد كبير المدينة التي يقام فيها، هذا ما نخلص إليه من دراسة بعنوان "تحليل أنثروبولوجي لمعارض الكتب" أنجزها الباحث الدنماركي برايان مورين. في فرانكفورت، يمكنك أن ترى ذلك التجانس اللافت لأشخاص غير متجانسين، حيث تأتلف مجموعة من الغرباء في موقع ضخم ملؤه الكتب والكتّاب، لا يعتمد تفاعلهم على طريقة أو نسق واحد، مسارات مختلفة وتعددية ثقافية تتشابك لتخلق هذا المشهد الثقافي العالمي على أرضية المعرض الرحبة.
يذكُر أحد الناشرين للكتب الأكاديمية أنه في "معرض هونغ كونغ" حضر ندوة أكاديمية في حقل تخصّصه، وندوة مخصّصة للمكتبيّين، وورشة عمل حول تسويق الكتاب الأكاديمي، ومنتدى داخل المعرض يلتئم فيها قرّاء نوع معين من الكتب ويتحاورون حول كتاب أو قضية ما. تمثّل رحلة هذ الناشر/ القارئ/ الزبون أيضاً نموذجاً إيجابياً للغاية ليس للقارئ وحده بل للناشر والمعرض، لو سألنا قارئاً عربياً عن رحلته في معرض كتاب مدينته، فكيف ستكون تجربته؟
كل شيء في المعرض يؤثّر على "مظهره": ألوان الأرضية، توزيع الأجنحة، طريقة عرض الكتب التي يمكن أن تكون عملاً فنياً بحد ذاتها، النظام أو الفوضى داخله، وجود مقهى جيد وأنيق داخل المعرض يلتقي فيه الكتّاب بالكتّاب والناشرين والقرّاء. كل هذه التفاصيل التي تبدو هامشية تتدخّل في الفترة التي يطول فيها بقاؤك على أرض المعرض، وتردّدك عليه، وهو أمر لا تلتفت إليه كما ينبغي إدارة بعض المعارض العربية. بالمقابل، تبالغ تظاهرات أخرى في البذخ والبهرجة، وتحوّل المعرض إلى استعراض، وقد يغدو فضاءً لفعاليات الطبخ والتراث، وتُطبّق عليه عقلية تنظيم مهرجانات التسوّق، حيث يمكن للزائر أن يجد كل شيء، ألم نقل إن كل معرض يشبه المدينة التي يقام فيها؟
كل هذا مجرّد أفكار حول معارض الكتب، لعل أبرز ما نخرج منها هو غياب دراسات ثقافية أو اقتصادية أو أنثروبولوجية أو اجتماعية تتعلق بهذه التظاهرات. دراسات قادرة على بناء تصوّر حقيقي: ما يغيب عنها وما يجب أن يستمر فيها، وكيف يمكن أخذها إلى أفق آخر أرحب وأكثر فاعلية.
في مدى أوسع
تُوفّر غالبية معارض الكتب الكبرى في العالم فرص عملٍ لفئات مختلفة غير الناشرين والكتّاب ووكلائهم؛ فهي تخلق فرصاً يستفيد منها بائعو الكتب والمكتبات والأكاديميون والفنّانون ومقدّمو الخدمات اللوجستية ومنتجو الأفلام والمترجمون والجمعيات المتخصّصة في الصناعات الثقافية والمبرمجون وطلّاب الجامعات. لذلك، يمكن أن يكون تأثيرها الاقتصادي ملموساً بالنسبة إلى كثيرين إذا جرى تخطيطها لتكون كذلك.