خلال الفترة التي اكتشف فيها السوريون الفن الحديث وبدأوا في ممارسته مع بداية القرن العشرين، كانت البلاد في مرحلة انتقال من تبعية عثمانية، تلقى قبولاً إلى حدٍ ما من كثيرين، إلى احتلال غربي متطوّر، مختلف الثقافة والعقيدة لم يألفوه سابقاً. ولقد أدى السلوك الاستعماري أو الانتدابي للفرنسيين إلى نشوء رد فعل لدى الفنانين السوريين يرفض كل ما هو غربي.
وفي منتصف أربعينيات القرن الماضي بعد الاستقلال، ازداد الشعور بضعف البلاد أمام عالم غربي غني ومتقدّم اكتشفوه مؤخراً، وبالحاجة إلى التسلح ضد هذه القوة الكبرى وإلى العمل على تأكيد وجودهم "الخاص" في هذا العالم.
وفي حين كان الفنانون قد بدأوا في تلك الفترة يصوّرون بطريقة هي غربية بالأصل من ناحية الحامل أو التقنية أو حتى في المواضيع، فقد كانوا يرفضون بالمقابل تقليد هذا الغرب العدو. لذلك وكرد فعل تلقائي، ظهرت في لوحات الجيل الأول من الفنانين المواضيع التاريخية أو لنقل الوطنية، والتي يمجّدون فيها الانتصارات والفتوحات العربية-الإسلامية.
ومن ثم، بُعيد الاستقلال، وفي تطوّر على صعيد الأسلوب، ظهرت محاولات لعدة فنانين وفي طليعتهم أدهم اسماعيل (1922-1963) وشقيقه الأصغر نعيم اسماعيل (1930-1979) لابتكار فن حديث "عربي" متحرر من تأثير الفن الغربي على صعيد الأسلوب بإبراز العناصر الزخرفية أو التزيينية، وكذلك الخط العربي، وقولبتها بأشكال مختلفة. فقد كانا يريدان أن يكون الفن الحديث في سورية فناً عربياً ومعاصراً في آن معاً، في مواضيعه كما في أساليبه. في كتابه "مروان، رحلة الحياة والفن"، تطرّق عبد الرحمن منيف إلى فن نعيم اسماعيل فذكر إنه كان روحاً مجدِّدة تريد للفن في سورية أن يتخذ مظهراً عربياً.
كذلك كانت أعمال محمود حمّاد (1923-1988) تمثل واحدة من تلك التجارب المجددة في تلك الفترة، وهو الذي التقى في حوران في أواخر الخمسينيات بأدهم وأيضاً بممدوح قشلان (1929)، واطلع حينها على محاولاتهما في خلق لغة "غير غربية" بتبسيط الأشكال واستعمال مفردات وإشارات من البيئة المحلية. لكن حمّاد قد قرّر أن يولي الأهمية للخط والحرف العربي وسعى لتشكيل لوحته تجريدية ابتداء من الكلمات والحروف، وقد ظهرت باكورة أعماله هذه سنة 1963. لاقت هذه الأفكار والتجارب حينها نجاحاً دفع الكثيرين إلى السير خلفهم، لكن النتائج لم تكن مقنعة في الغالب وإن استحسنها قطاع عريض من الجمهور والنقاد من منظار "قومي".
في وقتنا الحاضر، وبمرور سريع على أعمال أغلب الفنانين المكرّسين من جيل أسعد عرابي إلى جيل إدوار شهدا إلى جيل نزار صابور وصفوان داحول، وإلى نخبة الشباب الذين استطاعوا الوصول بأعمالهم إلى صالات العرض حتى خارج حدود بلدهم، نجد أن استحضار بطولات الزمن الغابر في تكويناتهم قد غاب بشكل كبير، كما أصبح حضور التيار الذي ينهل من الفنون العربية والاسلامية غير التشخيصية حضوراً خجولاً خفيفاً في أغلب الأعمال. فهل انتهى عصر البحث عن التمايز عن الغرب أو عصر البحث عن الهوية لدى الفنانين السوريين؟
لا شك أن الأمور قد تغيّرت كثيراً، وقد خبا لدى الفنانين ذلك الإحساس بوجوب التأكيد على الهوية البصرية العربية أو المحلية المنشودة، أو بوجوب إنشاء ذلك الفن العربي، بل ذهب منذ أكثر من عقدين من الزمن في توجهه إلى عمل فني ذاتي لا علاقة له لا بالتراث المحلي ولا بالهاجس الحضاري لبلده، بل تماهى الفنانون أكثر فأكثر مع ما يُستحدث في الغرب من تقنيات وأساليب تعبير وأفكار كـ"العمل التركيبي" و"الفيديو آرت" على سبيل المثال. وصار اهتمامهم الأوليّ ينصبّ على خلق فن معاصر يتجاوز الحدود لكي يستطيع التوجه إلى "العالمية".
لكن لا بد من الإشارة إلى أن البعض لا يزال يتابع ما بدأه أسلافه من استثمار للخط العربي في تكوينات تجريدية أو تزيينية، لا يخلو بعضها من رصانة، لها صدىً إيجابي ما بين المتابعين والمقتنين كما لا تزال بعض المؤسسات الثقافية والرسمية الغربية تهتم بهذا الإنتاج وتشجعه في كثير من الأحيان كإنتاج شعوب "أخرى".
* فنان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا