هل يحق لنا أن نطرح اليوم أسئلة من قبيل: كيف نتفلسف في الإسلام؟ أو أي فلسفة للإسلام؟ أو نبحث عن تأسيس شيء من قبيل الفلسفة الإسلامية انطلاقاً من التراث أو في انقطاع عنه؟
إلى غير ذلك من الأسئلة، وهي أسئلة تعبّر عن عجز أول تمظهراته يرتبط باللغة التي تستعملها، وهي في الغالب لغة غير دنيوية، أو لغة مستلبة، تعدَمها النزعة التاريخية ومعها الحس الاجتماعي، ففي الوقت الذي يؤسّس فيه الخطاب النقدي لفلسفة اجتماعية، منفتحة على قضايا الناس المعيشية ومنتقدة لانحرافات الرأسمالية المتأخرة، يمعن بعضنا في طرح أسئلة تخرجنا من الواقع ولا تعود بنا إليه.
هكذا باتت الفلسفة الإسلامية تتحرّك داخل فكر وليس داخل واقع، وهو فكر أقلّ ما يقال عنه، أنه لم يعد له شيء يقوله لواقعنا، أو انقطعنا عنه كما سبق وعبّر عن ذلك عبد الكبير الخطيبي في كتاب "المغرب المتعدد".
وبعبارة أخرى، إن هذا العجز للمجال الذي ما زلنا ننعته حتى اليوم بالفلسفة الإسلامية، وننعته كذلك أيضاً في تماه أعمى مع الدور الهامشي الذي اختاره لنا المركز، تعبير عن غربتها أو عن إصرارها اللاواعي على عدم مواجهة الواقع، على التحايل عليه، على الاستمرار بالدوران في فلك السلطة ـ التقليدانية الفكرية القائمة، تلك التقليدانية التي كان قد وسمها الخطيبي أيضاً بأنها نسيان للتقاليد.
ومع ذلك، فلنصغ قليلاً إلى مفكّر يريد التفلسف من داخل أو في الإسلام. يرى المفكر السينغالي سليمان بشير ديان في كتابه "كيف نتفلسف في الإسلام" (2014) أن "أولئك الذين يرفضون التفكير كفلاسفة، مع الفلاسفة، يعتقدون أنهم يؤكدون بذلك بأن الإسلام مكتف بذاته، وبأنه في حد ذاته فلسفة نفسه"، مؤكداً بعد ذلك "ضرورة أن نخوض معركة الفلسفة التي كانت دائماً ـ برأيه ـ معركة التنوير والتربية ضد روح الانغلاق والتطرّف الذي يقود إليه".
من حقنا أن نتساءل: لماذا يتم الربط دائماً بين الفلسفة والتنوير؟ وهل كل فلسفة هي بالفعل تنويرية؟ ألم ترافق الفلسفة السلطة وتبرّر انحرافاتها من العهد الاستعماري وحتى الحروب الإمبريالية الجديدة؟ بل من حقنا أن نتساءل أيضاً إن لم تكن الفلسفة قد أشاعت رؤية غير نقدية عن التنوير، وبلغة أخرى إن لم يكن التنوير نفسه في حاجة إلى تنوير؟ إذ إن الفلسفة لم تكتف فقط بخلق تماه بينها وبين التنوير، حتى أضحت الفلسفة هي التنوير ذاته، بل إنها في تماهيها ذلك أغلقت الباب أمام كل نقد للتنوير، وبلغة أخرى أمام كل نقد ذاتي.
لقد تحوّلت الفلسفة إلى دوغما. طبعاً، ليس المقصود بذلك سوى التيار الغالب في الحداثة، ولكنه التيار نفسه الذي كتب "التاريخ" الثقافي للبشرية. وفي الواقع، فإن كثيراً من فلاسفتنا المسلمين، ومنهم لا ريب سليمان بشير ديان، حين يكتبون عن مثل هذه القضايا، يعيدون إنتاج السردية المهيمنة نفسها حول التنوير والفلسفة والغرب، حتى وإن كان هدفهم مصالحة الإسلام بالعصر، إذ إن الإسلام يظل في مثل هذه الرؤية دائماً "الرجل المريض" الذي يتوجّب علاجه، من الأفغاني وحتى ديان، ويغفلون أننا في الغالب أمام مفاهيم أيديولوجية، مرتبطة بسياق تاريخي محدد.
وهنا نعود مرة أخرى إلى اللغة التي يستعملها أمثال هؤلاء المفكرين، فهي في الغالب لغة جوهرانية ومجتثة، فحين يتحدثون عن الفلسفة، لا يفهمونها إلا كمطلق مفارق، وكذلك يفعلون حين يتحدّثون عن الدين. ولهذا فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن مثل هذا الفكر يفصلنا عن الواقع ـ لأنه يفصلنا عن التاريخ وعن تاريخيته ـ ولا يربطنا به. فهو حين يطرح سؤال الكيف ويغيّب بالضرورة سؤال اللماذا، ومعه سياق السؤال. فهل نحن مضطرّون لطرح سؤال التنوير والتجديد باعتبارنا مسلمين؟ وهذا سؤال كان المفكر الهندي أمارتيا صن قد طرحه في "الهوية والعنف" على الثقافويين الغربيين ويتوجّب أن نطرحه على أنفسنا أيضاً.
لماذا نمعن في اختزال هويتنا التاريخية في الانتماء الديني فقط؟ وألا يعني ذلك أننا نعيد إنتاج الموقف الوضعي لإرنست رينان من الدين في محاضرته الشهيرة حول الإسلام والعلم؟ وأننا، في لاوعينا، نؤكد الأحكام المسبقة للغرب حول الإسلام، والذي يريده أن يكون أكثر من دين، أو يريده أن يستمر كهيمنة على المجال العام؟ إن فكرنا يتحرّك إذن في إطار الحكم المسبق، والحكم يمكن نقضه، ولكن يستحيل علينا أن ننقض الحكم المسبق، إلا إذا غادرنا طريقة التفكير الأيديولوجية التي ورثناها عن المشروع الاستعماري وامتداداته الأيديولوجية في المنطقة من قومية وإسلاموية وثيوقراطية.
إن الفيلسوف "المسلم" وهو يقرأ تاريخ الفلسفة الإسلامية كصراع بين النص والعقل، يتناسى في انتصاره للعقل أو للنص، أن هذا الصراع كان دائماً على حساب الواقع. ولا عجب، والحال كذلك، أن يغرق هذا الفكر في أوحال الماضي ولا يفهم الحاضر إلا من خلاله، فيُجرّم المشروع الرشدي مثلاً، أو يدافع عن المعتزلة ضد الأشاعرة، فمعركته، شبيهة بمعركة موريس باريس الذي اعتبر أن مهمة الفكر تكمن في المحافظة على مقبرته. وبعبارة أخرى، إن سياسة هذا الفكر سلالية وليست تاريخية.
بالرغم من ذلك، هناك لحظات في الفلسفة الإسلامية، يمكنها أن تكون معاصرة لنا، ونذكر هنا ما كتبه سليمان بشير ديان في كتابه عن "حي بن يقظان" لابن طفيل، وكيف أن ابن يقظان طوّر علاقة إنسانية بالطبيعة، والتي تقدّم - بلغة ديان - "درساً في الفلسفة الإيكولوجية".
فسكنى العالم لدى ابن يقظان تتحقق كمسؤولية وليس كتملك مرضي، أو في ما كتبه الكِندي ومن بعده ابن رشد حول ضرورة التحلّي بالعرفان بالجميل تجاه الفلاسفة اليونان، وشكرهم على ما قدموه، وهو ما لا نقوم به اليوم تجاه الحضارة الغربية، وما لم تقم به الحضارة الغربية تجاه فلاسفتنا القدامى، ولكن، إذا ما تركنا هذه اللحظات المضيئة جانباً، سنقف على واقع أن هذه الفلسفة الإسلامية تمحورت حول الإجماع وليس حول الاختلاف، لأن غايتها كانت الذات المطلقة وليس الذات الإنسانية، وحتى نتكلم خلافاً لمحمد أركون، فإنها فلسفة غير إنسية، وذلك ليس لأنها فلسفة دينية، بل لأنها أسّست لعلاقة بالدين، هي لاـ علاقة، فأفرغت العلاقة من الزمن، أي إنها حرمتنا من أن نعيش ديننا انطلاقاً من زمانيتنا، وحوّلت الدين نفسه إلى دوغما أو إلى سلطة.
وفي الواقع، فإن من يتحدث عن "فلسفة إسلامية" اليوم، يحط منذ البدء من فعل التفلسف، لأن ذلك يعني أنه تفلسف في إطار الحدود التي رسمها رجال الدين، وبعبارة أخرى في إطار الوصاية، كما أن من يتحدّث عنها يخطئ فهم الدين، لأنه لا يفهمه إلا كمرادف للوصاية.
طبعاً، إن من حق كل فلسفة أن تفكر في الإسلام، وفي الدين عموماً، ولكن عليها من جهة ثانية أن لا تخطئ أن منطق الدين مختلف عن منطق الفلسفة، وأن تتوقف عن محاولات عقلنة الدين، لأن العقلنة الراديكالية ـ وبعكس عقلنة لا تفعل أكثر من اختزال الانسان والعالم في بعد واحد هو العقل، وتتناسى أننا مواطنين في عوالم مختلفة ـ يتوجب أن تقوم، لا على مصالحة للدين مع العقل، ولكن على مصالحته بالفرد، وبلغة أخرى على تحويله إلى دين فردي، وهو ما يتوافق بالضرورة مع روح الدين الإسلامي.
وهنا تكمن "معركتنا مع التقاليد"، والدور المنوط بكل فلسفة إصلاحية، فليس همّها أن تتحول إلى "أصولية تقدمية" في مواجهة "أصولية رجعية"، كما يعبر المفكر السينغالي عن ذلك في معرض حديثه عن إصلاحية محمد عبده، فقضيتها لا تكمن في استعادة الأصول، ولكن في استعادة الفرد الذي غيبه الاستبداد. إن قضيتها إنسانية وليست دينية، ومعركتها هي مع التخلف وليس مع الدين. إن الدين لا أصول له، إنه علاقة أو علاقة فردية بالله. إن من يتحدث عن الأصول ينسى العلاقة ومعها الفرد.