قبل نحو 15 عاماً، وضع الكاتب اليمني وجدي الأهدل (1973)، روايته الأولى: "قوارب جبلية" (2002). وكان قبلها قد بدأ حياة الكتابة عبر مجموعات قصصية قصيرة، مثل "زهرة العابر" و"صورة البطّال" و"رطانة الزمن المقماق" و"حرب لم يعلم بوقوعها أحد" و"البرتقال في الشمس".
كانت الرواية الأولى سبباً في قلب حياة الأهدل وإحالتها جحيماً إلى حين. لقد أثارت الرواية غباراً كثيراً، فمن قول وزير الثقافة اليمني في ذلك الوقت عبد الوهاب الروحاني إنها "أهانت الأخلاق اليمنية"، وصولاً إلى إهدار الجماعات الدينية المتطرفة دم الأهدل. وليس خافياً أن السلطة الدينية كانت على اتفاق إلى حدّ بعيد مع السلطة الثقافية في عهد علي عبد الله صالح.
المحنة الفرعية
وقتها، وجد الأهدل ملاذاً بالهروب إلى دمشق، لكنه لم يحتمل البقاء. حاول، بعدما تَعب، أن يعود إلى صنعاء، لكن سكاكين كثيرة كانت في انتظاره. وحين كان في حالة منفاه القسري، فقد زوجته في اليمن وهي تضع طفلته البكر.
صادفت تلك الفترة زيارة الروائي الألماني الحائز على نوبل الأدب غونتر غراس (1927 - 2015)، إلى صنعاء، في العام 2002، وحين سمع صاحب "سنوات الكلاب" بقصة الأهدل لم يستقر على حال إلى أن ذهب للقاء الرئيس اليمني ضمن لقاء (حضره كتّاب كثر منهم محمود درويش).
مع موعد تسلّمه لوسام الجمهورية من صالح، اشترط غراس أن يعود وجدي الأهدل من منفاه. ردّ صالح: "دعنا من هذه الأمور الهامشية"، لكن غراس أجاب: "هذه ليست أموراً هامشية". وأضاف أنه لن يستلم الوسام إلا بعد صدور قرار عودة وجدي لليمن وضمان سلامته، وهو ما كان.
رواية جديدة
العودة إلى هذه الحادثة قد تكون مدخلاً لقراءة رواية الأهدل الجديدة: "أرض المؤامرات السعيدة" (منشورات هاشيت أنطوان/ نوفل، بيروت). ربما يبدو هذا الإصدار وقد أتى في زمن تخلّص معه الكاتب من حياة القلق الشخصي، لكن حال اليمن برمّته لم يعد على ما يرام بسبب التدمير الممنهج الذي يتعرّض له.
تعالج الرواية قصة صحافي فاسد يبيع المهنة من أجل الحصول على رضا رئيس التحرير، بما يتضمّن ذلك من إشارة لارتباط بالعبودية، عبودية الصحافي من جهة، وعبودية الفتيات الصغيرات في مدينة الحديدة الساحلية، وهي مسألة تثيرها الرواية بقوة.
عن حضور هذه المدينة بالذات في الرواية، يقول الأهدل في حديث مع "العربي الجديد": "إن اختيار هذه المدينة كفضاء جغرافي للرواية أتى لأسباب عديدة، منها أن زواج القاصرات شائع أكثر في منطقة الساحل، وكذلك ما زالت تمارس في أرياف الحديدة أشكال مُستترة من العبودية".
يتابع قائلاً: "وبالنسبة لبطل الرواية، مطهر، الذي يقوم برحلة من المرتفعات الجبلية الشاهقة إلى الأراضي المنخفضة وصولاً إلى الشاطئ، فهي استعارة عن رحلة الإنسان من العقل الواعي المنظم الواضح المنهجي إلى العقل الباطن الخفي الفوضوي الذي يمور بشهوات غامضة وأفكار غريبة".
الواقع وتنويعاته
سألنا الأهدل: هل نفترض أن أغلب أعمالك تأتي من داخل الواقع اليمني وما يحدث فيه، كما هو الحال مع هذه الرواية أو رواية "بلاد بلا سماء"؟ فيردّ بالقول: "نعم هذا افتراض صحيح. رواية (بلاد بلا سماء) جاءت فكرتها الأساسية من قضية سفّاح كلية الطب في جامعة صنعاء، الذي اغتصب وقتل عدة طالبات، وهي قضية شغلت الرأي العام أمداً طويلاً. لكن في ما بعد قررتُ التخلي عن الجانب الجنائي الذي لن أستطيع أن أضيف إليه شيئاً لأنه بات معروفاً للجميع، وأن أُركز أكثر على الفتاة كضحية يُضحّي بها المجتمع ليحافظ على ثوابته وعاداته وتقاليده، وأن أجعل الفاعل مجهولاً، بما يعني ضمناً إدانة المجتمع برمته".
ولدى سؤاله عما إذا كان من المفترض على نحو دائم أن يكون الروائي ابن بيئته وناطقاً باسمها، على غرار مسألة زواج القاصرات، تأتي إجابة الأهدل واضحة: "لا، ليس بالضرورة. يمكن للروائي أن يهتم بقضايا تتجاوز بيئته المحلية، فيكتب مثلاً رواية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، أو رواية تيار الوعي التي تُركز على الجانب الداخلي للإنسان ولا تأبه كثيراً بالقضايا الدائرة في المجتمع. الأدب متعدّد الوجوه، ولكل وجه جماله الخاص". يضيف "بالنسبة لي، أجد أن قضايا المجتمع اليمني ملحة وتتطلب من يكتب عنها. كاتب آخر قد لا يستجيب لهذا النداء، وهذا من حقه، فيطلق العنان لخياله متحرّراً من ثقل هذه القضايا".
ضمن محنة اليمن
وحول الوضع الذي يجد الكاتب والروائي اليمني نفسه فيه اليوم، في ظل انقطاع الرواتب، وانقطاع التيار الكهربائي، وغير ذلك من ضرورات الحياة في صنعاء، تُظهر إجابة الأهدل حرصه على مقاربته الواقعية للحياة المفروضة عليه كما سائر اليمنيين الذين يعيشون في زمن الحرب، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "الواقع أننا نعيش الآن خارج الحضارة، ونفتقر إلى الخدمات الأساسية، والمرء هنا يجد صعوبة في أن يغسل وجهه، فما بالك بأمور الحياة الأخرى! وقس على ذلك ما يُعانيه الكاتب في التحضير للكتابة وفي عملية الكتابة نفسها".
يضيف "هذه حالة قاتلة للإبداع وتقلل من إنتاجية الكاتب أو تجعله ينكفئ على نفسه تماماً. لكن رغم كل تلك المعوقات، فإن الكُتّاب في اليمن ما زالت فيهم بقية من إرادة لمتابعة القراءة والكتابة والتفاعل مع محيطهم الثقافي".