تخيّلَ تشارلز مورغان في كتابه "الكاتب وعالمه" أنّ شخصاً في الزمن البدائي رسم ماموثاً على الجدار كي يُرضي نفسه ونزوعه لتمثيل الأشياء والكائنات، وحين انتهى من رسمه قالت زوجته: "ولكن يا عزيزي إنني لا أرى الماموث هكذا مطلقاً، فلا شك أن ذيل الماموث أطول من هذا". غير أن الفنّان أجاب: "ليس هذا الذي رسمته ماموثاً، بل هو ما أراه في الماموث"، فطلبت الزوجة أن تكون ابنتهما حكَماً بينهما، ولكن البنت سجدت للرسم حين رأته معتقدةً أنه صورة الإله. يُعلّق مورغان قائلاً: "هكذا بدأت العلاقة بين الفن والمجتمع".
وفي الغالب، فإنه يتحدّث هنا عن تأثير الفن في المجتمع، إلى جانب حديثه عن حرية الفنّان والمتلقّي معاً في التصوير والتفسير، إذ إنَّ الزوجة لم تمنع، أو لم تعترض على الرسم، بل أعلنت أنها لا ترى الواقع على هذه الصورة، بينما تماهت البنت مع الرسم، وحوّلته إلى طوطم يمكن أن يُعبَد. وبهذا المعنى، فقد قرأت كلٌّ منهما صورة الفن قراءةً مختلفة عن الأخرى.
يمكن أن نضع عنوانا آخر لهذه الحكاية المخترَعة هو البحث عن دور الكاتب في المجتمع، أو نتحدّث عن الأدب والمجتمع، أو وظيفة الفن الاجتماعية، وكل هذه المسائل شغلت الثقافات البشرية، وخاصة في القرنَين الماضيَين.
وإذا سلّمنا بوجود تأثير للكاتب في المجتمع، فإننا سوف نكتشف أن من الصعب قياس هذه المسألة، بينما يمكن تلمُّس أثر السياسي والفيلسوف أو العالم النفسي. ويمكن الحديث باستفاضة وراحة أكبر عن أثر الكتابة في المجتمعات البشرية حين يتعلّق الأمر بـ "كاتب" من طراز ماركس، أو من طراز فرويد، وتأثيرُ كل منهما في العالم الحديث واسعٌ جدّاً، ولدى كلٍّ منهما عدد كبير من المؤيّدين ومن الخصوم.
ومن اللافت أننا، حين نتصفّح الكتب النقدية العربية التي صدرت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، نلاحظ أن قضية العلاقة بين الكاتب والواقع كانت من بين القضايا التي تعرّض لها معظم النقّاد العرب في عناوين نظرية مماثلة، دون أن تُقدَّم دراسة عينية تبحث في استطلاعات الرأي، أو تتفحّص أثر كل كاتب من الكتّاب المقروئين على نطاق واسع من بين الكتّاب العرب.
ولكن لا نعرف بعد كيف يمكن أن يكون للروائي أو الشاعر مثل هذا التأثير، فلا قياس للرأي العام، ولا إحصائيات موجودة في هذا الموضوع، سواء عن مجموعة من الكتّاب أم عن كاتب بعينه. فمن غير المعروف كيف أثّر نجيب محفوظ، أو الطيب صالح، في المجتمع المصري أو السوداني أو المجتمع العربي عامة، ومن غير المعروف إذا كان نزار قباني قد ترك أثراً أكبر من محمود درويش في المجتمعات العربية، أم العكس، وهما الشاعران الأكثر شهرة وحضوراً بين القرّاء العرب.
يَغضب الكتّاب دائماً من مقص الرقيب، ولكن قد يكمن بين شفرتَي ذلك المقص تفسيرٌ ما عن الأثر المحتمل الذي لا تريد السلطة السياسية أو الدينية أن يبقى في عقول الناس.