في العدد التاسع من مجلّة "الكرمل" الصادرة عام 1983، قدّم كلٌّ من عبد الرحمن منيف والطيّب صالح رؤية مختلفة عن رؤية الآخر بخصوص العمل الأدبي، وموقف الكاتب من الكتابة، وما الذي يراه من مهام يمكن أن تُناط بالكتابة في عمله الروائي. فقال منيف: "أنا لا أكتب عما حصل وانتهى، ولكنني أعيد تشكيل الحياة". أمّا صالح فقد قال: "إنني لا أسعى إلى إعادة صياغة العالم، ولكن إلى تفتيت العالم. أنا أفتّت العالم". ثم يضيف: "وقد كتبت الحياة على علّاتها. فإذا بي أمام كتابة مأساوية".
وأمّا قولُ عبد الرحمن منيف، فهو ينسجم مع اشتغاله على الرواية في كل ما كتب من جهة، ويخالف أو يتناقض مع معظم ما كُتب عن رواية مثل "مدن الملح" التي اعتُبرت بمثابة التأريخ لماضي الجزيرة العربية في زمن اكتشاف النفط. وينطبق الأمر نفسه على ثلاثيته "أرض السواد"، وفيها تتبَّع الروائي زمناً من أزمان تاريخ العراق. ولكن المتأمّل لعمل الروائي يعرف أنه لا يستعيد الماضي بالفعل، لا عبد الرحمن منيف ولا أي روائي كتب رواية يمكن أن يستعيد الماضي، وإنما يعيد تشكيل هذا الماضي، أو يعيد تشكيل الحياة إذا ما كان يكتب عن الحاضر.
ومن يقرأ رواية "مدن الملح"، يدرك أن الروائي لم يكتب تاريخ الجزيرة بل أعاد تشكيله، ومن الصعب خلق أي توازٍ أو مماثلة بين ما كتب وبين الوقائع على الأرض، على الرغم من المحاولات النقدية التي أرادت ضبط الرواية على التأريخ.
وسوف يكون من الغريب أن واحدة من الروايات التي لم يتوقّف العرب عن الإعجاب بها منذ أن صدرت في أوائل الستينيات من القرن العشرين وهي "موسم الهجرة إلى الشمال" قد قامت بمهام تفتيت العالم. لا أعتقد ذلك، بل بالعكس تماماً، لقد أعادت، أو حاولت أن تعيد، تشكيل الوعي العربي بما يخص العلاقة مع الغرب وفق المواقف التي اتخذها مصطفى سعيد حين كان يعيش هناك في انكلترا، بل إنها حرّضت النقد العربي الذي تناول الرواية لإعادة كتابة الإنشاء العربي منذ لحظة اتصال الشرق بالغرب، أو العالم العربي بالعالم الغربي سواء أكان الغرب مستعمِراً أو كان العربي طالباً أم مهاجراً أم منفياً.
والحقيقة أن رواية الطيّب صالح قدّمت قطعةً لحنية جديدة ومختلفة عن رواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" أو رواية سهيل إدريس "الحي اللاتيني" وغيرهما من الروائيين العرب الذين قاربوا هذه العلاقة روائياً، سواء في سرد قصّة مصطفى سعيد، أو في وعي السارد الذي كان يقدّم مطالعة مناقضة لمطالعة مصطفى في الموضوع ذاته. وأنا من مؤيّدي القول بأن هذه الرواية قد "أغلقت" موضوع العلاقة مع الغرب في الفن الروائي العربي بصورة قاطعة.
تعيد الحوارات دائماً سؤال الكاتب عن معنى الكتابة، ويعيد الروائيّون تبديل الأجوبة ومداورة السؤال، غير أن الرواية أو الكتابة ذاتها هي التي تجيب عن المعنى وراء وجودها.