ثمّة من كان يردّد أمام الروائيّين: أمتِعني ولكن أقنِعني. ولا توجد شروط للإقناع ولا للإمتاع، غير أنّ القائل كان يفترض أن على الروائي أن يقدّم فرضيات وأحداثاً وعلاقات وأقوالاً للشخصيات يقتنع القارئ أنها ممكنة، فلا يسمح للعامل أن يفكّر إلّا بوصفه عاملاً، ولا يقبل أن يتأمّل الفلّاح في شرط الوجود، فهذا منوط ومرتبط بالأستاذ الجامعي وغير ذلك من الشروط المسبقة التي ترتد في النهاية إلى شروط الواقع كما يفهمه القائل القارئ.
كانت ذريعة الإقناع تتربّص بالروائيّين في أكثر من مسيرة، وأكثر من منعطف، وربما بالغ في شأنها بعض النقّاد، وربما انبرى القرّاء يعيبون على هذا الروائي أو ذاك قائلين إنّ الأحداث الغريبة التي يسردها غير مقنعة، ليس بسبب نقص في الأداء، بل بسبب معاندتها لما يعرفونه عن "واقعية" الأشياء.
وثمّة من كان يهرب من الواقعية من الروائيّين، إذ إن هذا يعني ضحالة الخيال، وافتقاد القدرة على الابتكار، ونقص الموهبة، وغيرها من العيوب التي يمكن أن يُعيَّر بها الروائي، أو التي يخشى الروائي أن يُتَّهم ويُعيَّر بها من قبل النقّاد أو القرّاء.
وإذا كانت الرواية العجائبية قد اخترقت تقاليد الإقناع، وإذا كان روائيّوها قد تمكّنوا من كسر النمط النقدي السائد عن مشابهة النص للواقع، وراح ماركيز يسمح في روايته بأن يطير الناس، وأن تنبت لهم أذناب خنازير، فإنّ كثيراً من النقّاد والقرّاء لم يتخلّوا عن مطالبهم قائلين إنّ على العجائبي نفسه أن يكون مقنعاً.
الآن تعال أيها القارئ أو أيها الناقد العزيز واقرأ أن روائياً كتب قبل أن يصبح تهديد كورونا للعالم كلّه "واقعياً": إن المليارات من البشر الذي يعمرون الأرض، ذهبوا جميعهم إلى بيوتهم معاً في وقت واحد بسبب فيروس مجهري مستجد، وإنّ كلّ الذين التزموا بتعليمات الوقاية منه ما عادوا يلتقون، وإذا التقوا ابتعد الواحد منهم عن الآخر مسافة متر ونصف وإلى ما هنالك من توصيات صار يعرفها ثلاثة أرباع سكّان الأرض، فهل تصدّق أيها القارئ العزيز هذا الشطح الخيالي؟
لا بالتأكيد. لكن الحقيقة هي أنّ هذه الفكرة ما كانت تخطر على بال أحد من الروائيّين على الرغم من تفاخرهم بالخيال، إذ إن فكرة الإغلاق التام على أكثر من ثلاثة مليارات من البشر في كافة أنحاء الكرة الأرضية، تبدو أكبر بكثير من أي خيال.
ولو كنّا قد تخيّلنا ذلك فإننا نحتاج لكمية هائلة من الوقائع كي نجعل النص "مقنعاً"، ونحتاج لمعرفة الطرائق التي سنواجه بها أولئك الذين سيتّهموننا بالتقرّب من العجائبية. ومع ذلك فإنّ كل أولئك الذين رفعوا أصواتهم ضد العجائبي، أو طالبوا الرواية أن تقنعهم من أهل هذا الزمان، قبلوا بالعجيب برفقة أهل الأرض جميعاً، وهم راضون تماماً، ودون المتعة التي ما كانوا ليقبلوا بغيرها بديلاً.
والآن قل لي يا قارئي العزيز: من كان عليه أن يكون مقنعاً الروائي أم الواقع؟
ولكن تلك باتت لا تساوي شيئاً تجاه العجب الذي نعيشه.
* روائي من سورية