ركّز حميد عبد القادر في روايته "توابل المدينة" (دار الحكمة) على الحياة البرجوازية في جزائر ما بعد الاستقلال، من خلال شخصية السيدة جنّات التي كان السارد محفوظ يتردّد عليها في طفولته.
يقول محفوظ في وصف بيتها "كان صالونها مليئاً بالكتب. كلما دخلتُه وجدتها تقرأ. تقرأ وهي جالسة على أريكة جانبية قرب نافذة منفتحة على سعتها، إلا في فصل الشتاء حينما تمطر (...) وبمجرد أن أدخل بيتها، حتى أستمع للموسيقى الكلاسيكية وهي تداعب أركان الصالون. تدعوني إلى الجلوس أمامها، فتقرأ لي قصائد لشعراء فرنسيين كلاسيكيين، أو مقاطع من روايات كانت تنقلني إلى عوامل عجيبة، وتُحدث في نفسي نفس ما تحدثه الموسيقى الكلاسيكية".
تحمّس الساردُ إلى هذه القيم التي تجسّدها حياة السيدة، وهي حياة مشبعة بالثقافة وحب الفن، إذ تستمد روحها من عالم الموسيقى والروايات والقيم الإنسانية بالمعنى الذي يعطي تصوّراً متناغماً للوجود كحالة توازن وطُمأنينة وسلام داخلي، وحب للحياة، وقد ارتبطت هذه القيم بالمدينة كحامل أساسي لها.
اعتبر محفوظ صالون السيدة جنات جنّته الأرضية، اكتشف بين أركانه المعاني السامية للوجود، وقد انتشلته من عالمه الخارجي المناقض لعالمها؛ عالم مفكّك وضائع، وغارق في وحل الواقع، يصمّ ضجيجُه أذنيه، وتَصدُر منه كل الروائح المنفّرة من عداوة وحقد ورغبة في الانتقام.
لكن، بقي سؤال وحيد يلحّ على محفوظ: هل البرجوازية حنين إلى زمن الأقدام السوداء بالضرورة؟ هل حب الموسيقى الكلاسيكية وقراءة الكتب الأدبية الراقية انصهار في ثقافة المستعمِر؟ كان ردّ جنات واضحاً: "غادرَت فرنسا البلادَ، لكن الثقافة الفرنسية سوف تظلّ هنا.
لا يمكن الاستغناء عنها أبداً. لا يمكن ترك الروايات الفرنسية، وأعمال بلزاك، وستاندال، وموباسان، وزولا، وفلوبير، وبروست. كيف تصبح حياتنا من غير موسيقى دي بوسي، وبيرليوز؟ حتما ستكون جحيماً، موتاً أكيداً".
هل هو موقف مبالغ فيه؟ إنه موقف صادر عن ذات برجوازية متشبعة بالثقافة الفرنسية وتنظر من خلالها، وبهذا، تصبح القيم البرجوازية، بالنسبة لها، هي من يصنع مجتمعاً متحضّراً، ومُشبَعاً بالقيم الإنسانية، وبروح الأدب والموسيقى.
تميّز السيدة جنات بين فرنسا العدو، وفرنسا الثقافة المتجلية في قيم الثورة الفرنسية. وهنا نتذكر قول مالك حداد "إنّ مشكلة الجزائري مع دوغول، وليست مع موليير أو فلوبير".
من خلال موقف السيدة جنات، نستشف أنّ رواية حميد عبد القادر آمنت بالقيم البرجوازية، لكنها في ذات الوقت، تصوّرها كـ "يوتوبيا" انتهت منذ زمن بعيد، لأنّ الواقع الجزائري كان معادياً لتلك القيم، إذ كان يسير في طريق مختلفة، طريق تنفي القيم الفردية والثقافية والفنية لصالح قيم شعبوية.
اغتيال السيدة جنات، في الرواية، هو اغتيال لتلك الروح البرجوازية في مدينة أضاعت معالمها، وفقدت روحها البرجوازية، واستسلمت لناهبين لا يفكّرون إلا في الاستحواذ على تركات هؤلاء البرجوازيين.
لقد انهزمت البرجوازية أمام سياسة التشويه التي طالتها من قبل أجهزة الحكم. استُعملت كل الوسائل لتشويهها وتصويرها بأنّها حنين إلى الاستعمار، وبأنّها مجموعة قيم لا علاقة لها بروح المجتمع الجزائري المُسلم، ليوضع البرجوازي في موضع العدو الذي لا يؤمن جانبه.
ليس غريباً بعد ذلك أن تُقتل السيدة جنات على يد برهوم بوسليمان القادم من الريف، محمّلاً بإرث من الأحقاد، ليمرّ طريق مجده الوهمي فوق جثة هذه السيدة، أي فوق جثة البرجوازية المغتالة.