قبل سنوات وعقب سقوط نظام القذافي في العام 2011 زرت شرق ليبيا مرتين، وخلال الزيارتين اكتشفت أموراً وفوجئت بأخرى وصدمت من ثالثة.
اكتشفت أن ليبيا ليست فقط تلك الدولة النفطية التي تكتفي ببيع الخام الأسود للأسواق وكفى كما صدر القذافي هذه الصورة النمطية للعالم على مدى أكثر من 4 عقود هي فترة حكمه، بل دولة تتمتع بامكانيات اقتصادية وبشرية ومالية هائلة وموقع استراتيجي جذب الغزاة إليها على مدى التاريخ.
لديها مثلاً واحد من أفضل شواطئ البحر المتوسط قد يستوعب كل سياح أوروبا، لكن ينقص الدولة البنية التحتية من فنادق وطيران واستقرار سياسي وأمني وشبكات طرق وشركات تسويق وسياحة وغيرها، وقبل ذلك أفق سياسي ونظام حكم يؤمن بأهمية نشاط السياحة للدولة وسوق العمل والحياة الاقتصادية بشكل عام.
ولديها ثروة زراعية وحيوانية ضخمة وآلاف الأفدنة الصالحة لزراعة المحاصيل والحبوب، ولديها أيضا فرصة كبيرة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء واللحوم والسلع الأساسية والوقود والطاقة الكهربائية.
لكن الفساد المستشري، وضيق أفق النظام السياسي الحاكم واستبداده، ونهب وإهدار المال العام على مشروعات "هلامية" وفنكوشية ضيع على البلاد ثمرات هذه الفرص، كما أضاع أكثر من 200 مليار دولار من ثروة البلاد المودعة في الخارج فشلت الحكومات المتعقبة في استردادها على مدى 10 عقود.
وخلال الزيارتين فوجئت بكمية الأثار الإغريقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية الموجودة في ليبيا خاصة في الشرق حيث درنة والبيضاء والشحات وبني غازي وطلميثة وسوسة.
ورأيت كيف أن ليبيا النفطية تعد متحفا مفتوحا يحوي عددا من الكنوز الأثرية والتوابيت والزخارف النادرة، ولديها آثار ضاربة في القدم وعمق التاريخ، وأن تلك الأثار تسرد جانبا مهما من عصور الحضارات الإنسانية المتنوعة التي عرفتها الدولة والعالم في ذلك الوقت، وصنفت في الماضي، كواحدة من أهم البوابات البحرية على قارة أفريقيا، ومحط أنظار الغزاة.
فمنطقة مثل "لبدة" تضم آثارا عريقة، مثل المسرح الروماني والسوق اليونيقية وكنيسة البازيليكا وساحة الألعاب الرياضية وحمامات هادريان وقوس الإمبراطور "سبتيموس سيفيروس".
وفي مدينة قورينا الأثرية القديمة "شحات شرق ليبيا"، التي أسسها الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد، تجد مئات من القطع الأثرية النادرة التي أدرجتها منظمة يونسكو ضمن قائمة التراث العالمي قبل عقود.
وهناك آثار القيروان في الشرق، وهي مدينة أنشأها اليونانيون قبل أكثر من 2600 سنة، وجذبت في الماضي السائحين من دول العالم، ولكنها أصبحت الآن مهملة وهدفًا للتخريب والنهب والسرقة.
لكن في المقابل صدمت من حجم الإهمال الكبير الذي تتعرض له المناطق الآثرية في معظم مناطق ليبيا، خاصة في الشرق، وكانت صدمتي أكثر حينما رأيت مزارعين ومربي مواشي يربطون الحيوانات من حمير وأبقار في أعمدة الآثار الرومانية، وعلى أبواب المتاحف المكشوفة.
وأن العنف وحالة عدم الاستقرار التي سادت البلاد عقب سقوط القذافي امتدت لتك المواقع الآثرية النادرة، وأن آلات الحفر الثقيلة تقوم وتحت سمع وبصر المسؤولين بتجريف الآثارالإغريقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.
الآن تواجه أثار ليبيا خطرا من نوع أخر وهو الفيضانات الاخيرة الناتجة عن إعصار دانيال الذي أخفى قرى ودمر مناطق وهدم أكثر من 1500 منزل بشرق ليبيا.فهل تنجو تلك الآثار من خطر الفيضانات بعد أن عانت من خطر الإهمال والسرقة والعبث والتجريف والتخريب والبناء العشوائي والتهديد الأمني؟