بينما يتشاجر السياسيون لاختطاف مقعد الحكم ترزح الشعوب تحت وطأة أزمات طاحنة لا ترحم الصغار والكبار، وللأسف تجذب المعارك السياسية القنوات التلفزيونية وصفحات الصحف السيارة بينما تتوارى الكثير من صور المعاناة الاقتصادية للشعوب في الحصول على متطلبات الحياة الأساسية.
وفي تونس انشغل الكبار بالصراع على كراسي السلطة، بينما تتفاقم مظاهر الأزمة الاقتصادية والتي اشتدت بفعل الكثير من العوامل الداخلية التي كان ولا يزال يعاني منها الاقتصاد التونسي، كما أنها ازدادت حدة بعد الكثير من الأزمات الدولية التي أضافت أعباء مستجدة لم يستطع الاقتصاد التونسي المريض تحملها فانتقلت إلى المواطنين الذين باتوا يعانون من اختفاء السلع الأساسية وليس فقط غلاء أسعارها.
ومنذ أيام، نقلت وكالة رويترز أنّ بعض المتاجر في تونس فرضت قيودا على بيع بعض السلع الأساسية، وقلصته إلى عبوة واحدة من المواد التي بها نقص، وذلك وسط نقص كبير للسلع الغذائية في البلاد، وفي مقدمتها الزيت والسكر والأرز والدقيق والمشروبات، وجاء ذلك على خلفية تفاقم أزمة توريد الحبوب بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتسببت الأزمة في اغلاق العديد من المصانع التونسية أبوابها وتسريح العاملين بها بسبب نقص المواد الخام، حيث دخلت مصانع المشروبات التونسية في غمار الأزمة نتيجة صعوبة توفير السكر، وهو المادة التي من المفترض أن يوفرها ديوان التجارة الحكومي، المورد الحصري للسكر في البلاد، غير أنّ قدرته على مواصلة تأمين الواردات الأولية تأثرت بالأزمة المالية الطاحنة التي تعيشها البلاد، الأمر الذي تسبب في انتقال الأزمة إلى مصانع البسكويت والشوكولاتة والسلع الغذائية.
ولم يقتصر الأمر على المصانع الكبيرة والمواد الأساسية فقط، بل امتد أيضاً إلى البقالات الصغيرة والمقاهي التي اضطرت إلى اغلاق أبوابها في وجه الزبائن، ليس فقط بسبب شح السكر وإنّما أيضا لاختفاء البن المستورد من الأسواق. تزامن ذلك مع اغلاق الشركة الرئيسية والوحيدة لإنتاج الحليب المعلب في البلاد، وكلّ هذا في ظل أزمة عملة أجنبية حادة عمقتها الأزمة السياسية في البلاد وتباطؤ صندوق النقد الدولي في الموافقة على إقراض تونس 4 مليارات دولار قبل الوصول إلى حالة ولو هشة من الاستقرار السياسي.
كما امتدت الأزمة إلى الوقود، حيث اضطرت العديد من محطات الوقود إلى إغلاق أبوابها في ظل نفاد الكميات الموجودة وعدم كفايتها لاحتياجات الجمهور، كما أصبحت مشاهدة الطوابير الطويلة على محطات البنزين أمراً مألوفاً أوشك أن يكون جزءاً من روتين الحياة اليومية للمواطن التونسي، وبالطبع فشلت الحكومة في دفع أثمان الواردات بسبب أزمة موارد العملة الأجنبية.
تعليق باهت من الرئيس
ورغم تلك الأزمة الخانقة التي أصبحت ككرة الثلج التي تكبر يوما بعد الآخر لم يخرج مسؤول حكومي كبير أو صغير ليشرح أسباب الأزمة وكيفية الخروج منها، وما هي الحلول التي يقترحها لهذا الخروج، وما هي الأدوات المتاحة أو حتى المفقودة التي يمكنها المساهمة على الأقل في تخفيف حدتها.
وقد تجاهل الرئيس قيس سعيد التعليق على الأزمة، واكتفى بالإعلان عن النية لاستهداف المضاربين ومن يقومون بتخزين السلع، والإشارة إلى إعادة هيكلة شركة النفط التونسية. وبصفة عامة، لم يعطِ الرئيس سعيد إشارات تُذكر بشأن تفاصيل سياساته الاقتصادية ومنهج أولوياته وخططه المقترحة، وذلك منذ سيطرته على معظم السلطات في يوليو/ تموز 2021 باستثناء البيانات العامة التي تنتقد الفساد والمضاربين وغلاء الأسعار.
عموماً، فإنّ قفز الرئيس التونسي على المشكلة وعدم التعرض الدقيق لها بالتعاطي مع التفاصيل وتقديم الحلول والمقترحات، يشير بوضوح إلى عجزه وحكومته عن امتلاك أي حلول يمكن أن تساهم في حل الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، أو حتى توفير السلع الأساسية للمواطنين. وبناء على غياب أي رؤية حكومية للحلول، فإنه من المنطقي استنتاج أن شح السلع الحالي قد يبدو أمرا مستمرا خلال الأشهر القادمة حتى يتفضل الصندوق بتمرير القرض الذي طلبته الحكومة التونسية، أو تتبرع بعض الدول بمساعدات تساهم نسبيا في توفير سلع سيتسبب نقصها في شلل للمرافق الحيوية في البلاد.
ورغم أنّ الحكومة التونسية قد حصلت على دفعتين من المساعدات الدولية هذا الصيف، إحداهما من البنك الدولي والأخرى من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، لتمويل مشتريات الحبوب، إلا أنه بات من الواضح أن قرض الصندوق هو القوة الدافعة التي تعول عليها الحكومة للخروج من الأزمة ولو بصورة مؤقتة وأنها لا تملك بدائل غير انتظار القرض، وذلك على الرغم من شروط الصندوق القاسية والتي سيأتي في مقدمتها رفع الدعم عن السلع الأساسية والتي ما زالت الدولة تقدمها بأسعار مدعومة، في الوقت الذي أدت فيه زيادة الطلب العالمي على السلع مع أزمات سلاسل التوريد المتعددة إلى ارتفاع الأسعار العالمية.
المواطن يدفع ثمن معارك السياسة
دخلت تونس في معركة سياسية طاحنة منذ أكثر من عام، وفي إطار الصراع على السلطة لم يلتفت الجميع إلى الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، وعلى الرغم من كون هذه الأزمة موروثة وأن معظم المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد التونسي قديمة، لكن من المؤكد أنّ الالتفات لبحث تلك الأزمة والتفاعل معها ضاع في زحام المعركة، الأمر الذي تسبب في تفاقم حاد للأزمة بلغ ذروته حاليا باختفاء العملة الأجنبية وعدم قدرة الدولة علي دفع أثمان السلع المستوردة.
ومن الطبيعي أن الجماهير التونسية ستدفع فاتورة الصراع السياسي كاملة، ليس فقط في صورة انخفاض جودة حياتها، بل بإجبارها على الاستغناء عن العديد من السلع الأساسية، والاعتياد على الوقوف لساعات في طوابير طويلة للحصول على الخبز والوقود والحليب، بالإضافة إلى الرضوخ لاشتراطات الصندوق التي تبدأ بتقليص الدعم مروراً ببيع أصول الدولة، والسقوط في دوامة القروض التي سبقتها إليها الكثير من الدول حول العالم ولم تستطع الفكاك منها.
من الواضح أنّ الملف السياسي التونسي وكنتيجة منطقية للانقسامات الحادة بين النخب السياسية قد ذهب بالفعل نحو معسكر قيس سعيد الذي أضحى دستورياً يمتلك كلّ السلطات، وأنّ الرئيس بسلطاته الفرعونية المطلقة هو المسؤول عن حلّ الأزمة، وأنّه لا يمكنه التمادي في إنكار وجوده طويلاً، فلا شك ستوقظه أنات الجماهير التي تتحمل وحدها فاتورة تخاذله حتى الآن.