وفق الأرقام الرسمية، فإن حصيلة مصر السنوية من العملات الأجنبية تبلغ نحو 100 مليار دولار، وإن الصادرات باتت تدر على البلاد إيرادات تقترب من 45 مليار دولار، ما بين صادرات سلعية قد تتجاوز قيمتها 35 مليار دولار في عام 2022 و11 مليار دولار صادرات مشتقات الطاقة من نفط وغاز، وهناك فرصة لزيادة الرقم مع إقبال أوروبا على شراء الغاز المصري وزيادة سعر النفط في الأسواق الدولية.
كما أن إيرادات البلاد من تحويلات المصريين العاملين في الخارج اقتربت من 32 مليار دولار في العام المالي الأخير، وهناك إيرادات تقدر قيمتها بنحو 11 مليار دولار من قطاع السياحة، وهذا الرقم مرشح للزيادة، وما يقرب من 7.9 مليارات دولار إيرادات قناة السويس، إضافة إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة والبالغة نحو 8.9 مليارات دولار خلال العام المالي الماضي الأخير 2021-2022.
هذه الإيرادات الدولارية الضخمة، التي قلما تتدفق على دولة عربية غير نفطية، كانت كافية لسداد الالتزامات السنوية المستحقة على مصر في الظروف العادية، وفي مقدمتها تغطية فاتورة الواردات وأعباء الديون الخارجية ودعم استقرار العملة ومواجهة أي مضاربات محتملة في سوق الصرف.
ليست مقبولة قفزة واردات مصر من الصين إلى 14.4 مليار دولار عام 2022 بزيادة 23.4%
وحتى في حال حدوث عجز مالي في الموازنة العامة أو عجز في الميزان التجاري، كان من الممكن معالجته بأمور متعارف عليها، منها مثلا الاقتراض من البنوك المصرية، وتقييد الواردات غير الضرورية خاصة القادمة من الصين.
فليس من المقبول قفزة واردات مصر من الصين إلى 14.4 مليار دولار في عام 2022 بزيادة 23.4%، مقابل 11.9 مليار دولار في العام السابق، والملفت أن تجاراً مصريين يغرقون الأسواق بسلع صينية وآسيوية رديئة وملوثة ومضرة بالصحة العامة مثل ألعاب الأطفال والملابس الرديئة والبلاستيك وأواني الطهي، كما تُستورد السبح وسجاجيد الصلاة والأقلام والأحذية وغيرها من السلع الاستهلاكية التي يمكن تصنيعها محليا.
كما أن عمل الحكومة على ملفات مهمة كان من الممكن أن يوقف النزيف في النقد الأجنبي ويزيد المعروض الدولاري، فتنشيط قطاعات مثل الصادرات والاستثمار المباشر والسياحة والبورصة، وزيادة الإنتاج وإعادة فتح ما يزيد عن 9 آلاف مصنع مغلق، كانا كفيلين بتحقيق ذلك الهدف.
وزيادة الرقعة الزراعية بالمحاصيل المهمة مثل القمح والذرة والأرز كفيلة بالحد من فاتورة السلع الغذائية التي قفزت إلى نحو 18 مليار دولار، وتشجيع رجال الأعمال على توسيع استثماراتهم بدلا من إلقاء بعضهم في السجون بلا محاكمة كما الحال مع صفوان ثابت ونجله.
وبدلا من أن تعمل الحكومة على تلك الملفات وغيرها، راحت تهدر المتاح من النقد الأجنبي على مشروعات لا تمثل أهمية قصوى، مثل تفريعة قناة السويس التي التهمت 8 مليارات دولار من موارد الدولة، في الوقت الذي كانت تعاني فيه البلاد من عجز ملحوظ وضغوط على العملة.
راحت الحكومة تهدر المتاح من النقد الأجنبي على مشروعات لا تمثل أهمية قصوى لمصلحة الاقتصاد
وفي الوقت الذي تشهد فيه البلاد فائضا في إنتاج الكهرباء، كان هناك إصرار على تنفيذ المشروع النووي البالغة تكلفته أكثر من 30 مليار دولار ويجرى تمويله عبر قروض خارجية، وهناك إصرار على إقامة مشروعات أعلى برج في أفريقيا، وأكبر مدينة ترفيهية في الشرق الأوسط، وإقامة مؤتمرات شباب العالم وكأننا أغنى دولة في العالم، وشراء طائرات وإقامة قصور.
ولم تكتف الحكومة بذلك، بل راحت تغترف القروض الخارجية وتدمن الاستدانة، لتقترض أكثر من 120 مليار دولار منذ نهاية العام 2016، والأخطر توظيف هذه القروض بشكل ليس به رشادة وخاطئ وبه إهدار للمال العام، وإنفاق تلك القروض على مشروعات لا تمثل أولوية للاقتصاد والمواطن مثل العاصمة الإدارية الجديدة وإقامة الجسور والطرق والقطار السريع والحي الحكومي وأكبر مسجد وأضخم كنيسة وأكبر دار أوبرا في منطقة الشرق الأوسط وغيرها.
وراحت الحكومة تبرم صفقات بمليارات الدولارات لاستيراد الغاز الطبيعي من دولة الاحتلال دون الحاجة لذلك، خاصة وأن لدى الدولة حقل ظهر أكبر حقل في منطقة شرق البحر المتوسط وغيرها من حقول إنتاج الوقود الأزرق.
والنتيجة أن ما كان متاحا من إيرادات دولارية لدى مصر جرت بعثرته يمينا ويسار، ولم تحسن الحكومة إدارته، وبات لا يكفي لتغطية نصف أعباء الديون الخارجية البالغة أكثر من 42 مليار دولار في العام المالي الحالي، وفق أرقام البنك الدولي الحديثة، فما بالنا بالأعباء الأخرى وفي مقدمتها فاتورة الواردات التي ارتفعت لأكثر من 80 مليار دولار بسبب قفزات أسعار الحبوب والمشتقات البترولية في الأسواق الدولية.
السؤال: هل نسارع وندخل تعديلات جوهرية على السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد قبل أن تجنح السفينة وربما تغرق، وهل هناك فرصة لتدارك مثل هذه الأخطار الكارثية بدلا من العناد والإصرار على إغراق البلاد في مزيد من الديون والأعباء المالية والسلع الصينية، وبذلك نصحو على صدمات بيع بنوك الأهلي ومصر والقاهرة وإعادة قناة السويس للأجانب، وربما رهن الأهرامات الثلاثة وأبو الهول وغيرها من أصول مصر التي لا تقدر بثمن.