يوجه العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، ضربة موجعة لمساعي الحكومة المصرية في السيطرة على المضاربات المستعرة في أسواق الصرف وانعكاساتها على أسعار مختلف السلع في البلاد، ما يطيح آمال الحكومة في كبح معدل التضخم المتصاعد بالأساس الذي يزيد من احتقان الشارع. وتوجهت أنظار مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية سريعاً إلى مصر، بعد اندلاع الحرب في غزة، باعتبارها أكثر حساسية للصراع المتاخم لحدودها، وأكثر تأثراً اقتصادياً، ولا سيما أنها تعاني بالأساس من صعوبات مالية كبيرة، في ظل ارتفاع حجم مديونياتها، ما ينعكس سلباً على قيمة عملتها وأسعار مختلف السلع والخدمات، وبالتالي تحميل الطبقات الفقيرة والمتوسطة المزيد من الأعباء المعيشية.
وتشهد أسعار السلع موجة جديدة من الانفلات وسط تبادل الاتهامات بين تجار التجزئة والموردين، بينما يلقي المستوردون في البلد الذي يعتمد على تلبية الكثير من احتياجاته على الاستيراد، باللوم على القفزات الأخيرة في سعر صرف الدولار في السوق الموازية (السوداء) التي باتت ملاذ الكثيرين لتدبير العملة الصعبة في ظل شحّه في البنوك.
وصعد سعر الدولار في السوق السوداء إلى 45 جنيهاً حالياً، بينما كان يتداول في نطاق 39 جنيهاً قبل اندلاع الحرب في غزة، بينما يبقي البنك المركزي على سعره رسمياً منذ إبريل/ نيسان الماضي عند 30.95 جنيهاً.
وما إن زاد الدولار انفلاتاً، حتى أصابت موجة من ارتفاع الأسعار مختلف السلع في الأسواق. وتصاعدت أسعار الألبان السائبة بنسبة 5% اليومين الماضيين، بعد زيادة بلغت 10% في سبتمبر/أيلول الماضي. وارتفعت أيضاً أسعار الأجبان، بنسب تصل إلى 5% للمنتجات المحلية و10% للمستوردة.
وعاودت أسعار السكر الصعود كذلك، ليصل الكيلوغرام إلى 39 جنيهاً، وارتفع سعر الخبز الحر من 10 جنيهات إلى 12 جنيهاً للخمسة أرغفة، متأثراً بزيادة الدقيق الحر، في الوقت الذي لجأت المخابز إلى المزيد من خفض وزن الأرغفة والمخبوزات.
وارتفعت أسعار اللحوم البلدية، ما بين 20 إلى 30 جنيهاً للكيلوغرام، لتباع في المناطق الشعبية بسعر 350 جنيهاً، بينما تزيد إلى 380 جنيهاً في المحالّ الكبرى. ويرجع هيثم عبد الباسط، نائب رئيس شعبة القصابين هذه الزيادات إلى ارتفاع أسعار الماشية المستوردة، وزيادة سعر طن العلف بنحو 500 جنيه، ليصل إلى 15.5 ألف جنيه.
ولم تنجح مبادرة الحكومة في تخفيض أسعار السلع الأساسية في الأسواق، كالأرز والسكر وزيت الطعام والمعكرونة والعدس والفول، التي أطلقتها في 14 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بالتنسيق مع القطاع الخاص، وتبعها قرار من رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بإعفاء واردات 12 سلعة من التعريفة الجمركية لمدة ستة أشهر.
دفعت الدعاية الواسعة للمبادرة الحكومية المواطنين إلى البحث عن السلع المخفضة، فلم يظهر أثرها إلا بمناطق محدودة وكميات قليلة من السلع، لا تمكن أميمة محيي الدين، ربة منزل، وأمثالها من الحصول عليها بسهولة.
ظلت أميمة تبحث عن السلع الست المخفضة التي شملتها الرعاية الحكومية، داخل مجمع استهلاكي تابع لوزارة التموين، في منطقة الدقي غربيّ العاصمة، فلم تجد أياً منها على رفوف المجمع، فيما حاول الموظف إرشادها إلى المجمعات الأخرى المنتشرة في الحيّ الراقي، فأخبرته أن المعارض الأخرى خاوية هي الأخرى من السلع التي تبحث عنها، فلا أرز ولا سكر ودقيق، وفق حديثها مع "العربي الجديد".
وقالت إن الحكومة سبّبت بسياساتها قفزات جنونية في الأسعار، وهي تدفعنا إلى التزاحم في طوابير ممتدة، بالمعارض الشعبية للحصول على بعض أكياس المعكرونة واللحم المجمد، مشيرة إلى أنها تضطر إلى توفير احتياجاتها من السلع الضرورية اليومية من المحالّ المنتشرة في الحيّ، وفقاً لأسعار السوق.
وتعهدت الحكومة بتوفير 6 سلع أساسية لبيعها بأسعار مخفضة، بنسب قدرتها بنحو 15% إلى 25%، عن الأسعار السائدة في السوق، بالتعاون مع الغرف التجارية واتحاد الصناعات وشركات الصناعات الغذائية ومعارض وزارة التجارة الداخلية.
وسمحت الحكومة بمشاركة تجار خضروات في دعم المبادرة الرسمية، بمنحهم أماكن عرض المنتجات في الميادين والشوارع الرئيسية، مقابل تخفيض بقيمة 20%، مع مدّ مبادرة تخفيض السلع الأساسية لمدة 6 أشهر، لتنتهي في مارس/آذار 2024.
ووفق إبراهيم عشماوي، نائب وزير التموين، في تصريحات صحافية، تراجعت أسعار السكر من 40 جنيهاً للكيلوغرام، ليراوح بيعه من 27 إلى 32 جنيهاً، والأرز هبط من مستوى 28 جنيهاً إلى 20 جنيهاً، ولتر الزيت من 60 إلى 50 جنيهاً، متعهداً بأن تشهد الِأسواق تراجعا بأسعار السلع الغذائية، مع التزام الوزارة الرقابة لضبط الأسواق ومواجهة من وصفهم بـ"المتلاعبين" والحد من رفع الأسعار.
لكن زيادات طاولت أيضاً الخضروات، إذ عاود البصل رحلة الصعود السعري، ليقفز من 17 جنيهاً إلى 23 جنيهاً، بعد أن فقد 45% من قيمته جراء حظر تصديره إلى الخارج لمدة 3 أشهر اعتباراً من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
وتشهد أسعار الخضروات ارتفاعاً لبعضها، متأثراً بندرة الإنتاج، كالطماطم والكوسا، بين فصلي الشتاء والصيف، وأخرى تتعلق بزيادة الصادرات، كالبطاطا، أو التكاليف الناجمة عن زيادة سعر الأسمدة والبذور وإيجارات الأراضي للموسم الشتوي.
وتعليقاً على مبادرة الحكومة في توفير السلع المخفضة للمواطنين، التي تطرح عبر فروع السلاسل التجارية بأنحاء الجمهورية، يؤكد حازم المنوفي، عضو اتحاد الغرف التجارية في رسالة لـ"العربي الجديد"، التزام المحالّ الأسعار المطروحة. لكن مراسل "العربي الجديد" رصد في جولة بالأسواق كيف أن صغار الموزعين المنتشرين في الشوارع والأحياء الشعبية يرفضون المشاركة في المبادرة، لندرة الكميات التي يمكن أن يتحصلوا عليها، مع سوء جودة السلع.
ويلقي التجار مسؤولية أزمة الزيادة الجديدة في الأسعار على ارتفاع قيمة الدولار، الذي بلغ نحو 45 جنيهاً في السوق السوداء، وارتفع إلى 50 جنيهاً في التعاملات الآجلة على السلع، ورغبة الجميع في التحوط أمامه برفع قيمة السلعة أو عدم التصرف في بيعها إلا بكميات محدودة، في ظل استمرار الحرب في غزة وتوقع مزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه خلال الفترة القادمة.
وتدفع الحكومة البنوك العامة إلى اقتراض المزيد من الدولار والعملات الصعبة بفوائد ميسرة موجهة لمشروعات التنمية والتحول إلى الاقتصاد الأخضر، من مؤسسات التمويل الدولية لمساعدتها على توفير السيولة للمشروعات الصناعية، التي تتعطل استثماراتها بسبب العجز المتصاعد بمواردها من النقد الأجنبي، إذ تواجه عجزاً في النقد الأجنبي يصل إلى 17 مليار دولار العام الجاري، و29 مليار دولار في 2024، حسب تقديرات مؤسسات تمويل دولية.
وتعاني البنوك صعوبات في الحصول على قروض دولية جديدة، منذ تخفيض وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني العالمي لخمسة بنوك مصرية هي "الأهلي" و"مصر" و"القاهرة" و"التجاري الدولي" و"الإسكندرية"، ووضعها قيد المراجعة منذ مايو/أيار 2023، بما يرفع قوائم الانتظار في طلبات المستثمرين والموردين الراغبين في الحصول على الدولار لاستيراد مستلزمات الإنتاج أو تحويل أرباحهم إلى الخارج.
ويعكس تراجع تصنيف أكبر البنوك الحكومية والخاصة في مصر، أزمة نقص العملات الأجنبية، وتصاعد التدهور الاقتصادي في ظل التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة. ونهاية الأسبوع الماضي، توقعت وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني، تأثر اقتصاد مصر بتداعيات الحرب في غزة، وخفّضت تصنيفها الائتماني من "B" إلى "-B" في ظل ارتفاع مخاطر سداد الديون.
وأشارت الوكالة إلى أن مصر تتأثر مباشرةً بالحرب، ورجّحت أن يؤدي الصراع إلى تراجع عدد السياح في مصر، ما قد "يمارس ضغطاً إضافياً على الاقتصاد". وأشارت إلى أن إغلاق حقل "تمار" للغاز الذي يستخرجه الاحتلال من مياه البحر المتوسط قبالة السواحل الفلسطينية المحتلة أدى إلى خفض واردات مصر من الغاز من 800 مليون قدم مكعب يومياً إلى 650 مليون قدم مكعب يومياً، ما يخفض من قدرة مصر على تلبية طلبات تصدير الغاز الطبيعي المسال.
وأشارت الوكالة إلى تزامن هذه التأثيرات مع "تقدّم بطيء" في الإصلاحات الهيكلية التي أخّرت صرف الأموال متعددة الأطراف والثنائية الأساسية لتلبية احتياجات التمويل الخارجي اللازمة للبلد.
وبينما تعيش الأسواق الشعبية وغيرها في مختلف مناطق مصر أجواء الحرب المستعرة على غزة، فإن الدوائر الحكومية المعنية باستيراد السلع وتوفيرها تعيش أيضاً هذه الأجواء، وسط تقارير تشير إلى تكثيف مصر من معدلات استيراد القمح، وكذلك الوقود، خشية ما هو قادم.