تبدو واشنطن حريصة على استغلال ورقة الإيرادات النفطية الليبية أكثر من أي وقت مضى، لا سيما في ظل مساعيها إلى تأمين استمرار تدفقات الخام إلى السوق العالمية لتهدئة الأسعار، بالتزامن مع تحركاتها الواسعة لحظر النفط الروسي، بينما يحذر خبراء اقتصاد ليبيون من توجه غربي لفرض "برنامج النفط مقابل الغذاء" على ليبيا بذريعة إنهاء الصراع الدائر على السلطة، ما سيكون له تأثير كارثي على معيشية الليبيين لوضع ثروات البلاد تحت الوصاية الخارجية.
وسبق أن طبقت الأمم المتحدة برنامج النفط مقابل الغذاء مع العراق، بمقتضى قرار صادر عن مجلس الأمن في عام 1995، إذ سمح للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لشعبه، تحت إشراف دولي، بعد فرض عقوبات اقتصادية عليه بعد تحرير الكويت.
النفط وغذاء العراق
وجرى فرض هذا البرنامج حينما ساور مجلس الأمن القلق بشأن استمرار معاناة السكان المدنيين من الشعب العراقي، نتيجة الجزاءات الشاملة التي فُرضت على العراق، في أغسطس/آب 1990، بسبب غزو صدام حسين الكويت، فأصدر مجلس الأمن، في إبريل/ نيسان 1995، القرار 986، الذي يتضمن صيغة النفط مقابل الغذاء، لكن الكثير من الفساد شاب صفقات هذا البرنامج وطاول مسؤولين في الأمم المتحدة وفق تقارير دولية.
ومع تأزم الوضع في ليبيا وامتداد الصراع بشكل متكرر إلى إنتاج النفط وعائداته، يحذر محللون اقتصاديون من استغلال الأطراف الخارجية هذا الوضع لفرض سيناريو "النفط مقابل الغداء".
ويشكل قطاع الهيدروكربونات العمود الفقري للاقتصاد الليبي، إذ تمثل صادرات النفط غالبية الإيرادات الحكومية وأكثر من 95% من عائدات التصدير.
ووفق قراءة أستاذ الاقتصاد في جامعة مصراتة عمر زرموح لـ"العربي الجديد"، فإنه "يبدو أن هناك خطة دولية تزعم المحافظة على النفط الليبي، إذ يلوح في الأفق سيناريو برنامج النفط مقابل الغذاء الذي طُبق على العراق في سنوات ماضية.. هذا الأمر سوف يجر ليبيا إلى مزيد من الفقر والتخلف والتعاسة، لذا لا بد من الوقوف صفاً واحداً لمثل هذه التحركات وعدم السماح بها".
ومنتصف مايو/ أيار الجاري، قالت السفارة الأميركية في طرابلس إنّها تدعم "التجميد المؤقت" لعائدات النفط الليبي في حساب المؤسسة الوطنية للنفط لدى البنك الليبي الخارجي، حتى يتم التوصل إلى اتفاق بشأن آلية لإدارة الإيرادات.
وصدر الموقف الأميركي بعد أيام من إعلان رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا إعادة فتح حقول وموانئ نفطية أغلقها مناصرون لحكومته، وطالبوا في المقابل بتسليم حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة السلطة لحكومة باشاغا، وانتهاج "سياسة شفافة وعادلة في توزيع الإيرادات النفطية على المدن والمناطق".
وقالت السفارة الأميركية في بيانها إن "استعادة إنتاج النفط الليبي أمر مهم للشعب الليبي والاقتصاد العالمي"، موضحة أن الاتفاق على آلية لإدارة شفافة لعائدات النفط "أمر ضروري من أجل تحقيق ذلك". وأكدت ضرورة أن "تتضمن الآلية اتفاقاً على النفقات التي تكتسي أولوية، وكذلك تدابير الشفافية، وخطوات لضمان الرقابة والمساءلة".
وسبق أن تعرضت الإيرادات النفطية للاحتجاز من جانب مؤسسة النفط نهاية 2020 في حساباتها لدى المصرف الليبي الخارجي، مبررة ذلك حينها بانتظار الوصول إلى تسوية سياسية شاملة بين حكومة الوفاق الوطني في طرابلس وقتها والكيانات الموازية شرقي البلاد. لكن المؤسسة أنهت الحجز على الإيرادات وأفرجت عن 7.76 مليارات دولار كانت مجمدة أربعة أشهر و14 يوماً.
السيطرة على صنبور النفط
وتتصاعد المخاوف من اختلاف المشهد هذه المرة، لا سيما في ظل حاجة أميركا البالغة للسيطرة على صنبور النفط في ليبيا خلال حرب الطاقة التي تخوضها ضد روسيا، والرغبة في إبقاء أسعار النفط عند مستويات منخفضة لتضرر الاقتصاد الأميركي من الأسعار المرتفعة التي تدفع التضخم إلى أعلى مستوى في أكثر من أربعة عقود، ما يضعف كثيراً من شعبية الرئيس جو بايدن.
يقول الخبير الاقتصادي الليبي عبد الحكيم عامر غيث، لـ"العربي الجديد"، إنه "رغم الصراع الدائر في ليبيا، فإن إيرادات النفط لا تزال تصل إلى المصرف المركزي، والذي بدوره يمول معظم أوجه الإنفاق الحكومي، من رواتب ودعم وعلاج، لكن كل هذا سيختفي في حالة وضع اليد على الإيرادات تحت أي مسميات، فالضحية سيكون المواطن بسبب الفساد".
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي الليبي محمد الشيباني أن "ليبيا أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول تجميد الإيرادات النفطية وتكرار مشهد 2020 إلى حين الوصول إلى حل بشأن صراع البرلمان مع حكومة الدبيبة، والأمر الآخر يتعلق بالنفط مقابل الغذاء وسوف يكون خياراً مؤلماً للشعب الليبي، فالأمر سبق تطبيقه مع العراق، والحكومة العراقية اضطرت آنذاك لتمريره للتخفيف من آثار الحصار، لكن التجربة يشوبها الكثير من الفساد".
ويقول الشيباني لـ"العربي الجديد" إن "النفط لن يقفل مجدداً، ومصلحة الغرب استقرار الوضع النفطي في ليبيا لارتباطه بأسواق الطاقة العالمية في ظل التداعيات التي خلفتها الأزمة الأوكرانية، ومن بينها العقوبات المفروضة على النفط الروسي، خصوصا أن الدول الأوروبية تسعى إلى بدائل للطاقة الروسية بدعم أميركي واسع".
معدلات ما قبل الإغلاق
ومن المتوقع أن يعود إنتاج النفط في ليبيا إلى معدلات ما قبل الإغلاق الأخير من قبل موالين لباشاغا الذي استمر نحو ثلاثة أسابيع، حيث كانت تنتج نحو 1.2 مليون برميل يومياً.
وكانت مؤسسة النفط الليبية قد قالت إنّها تستهدف زيادة الإنتاج إلى 1.45 مليون برميل يومياً بنهاية 2022، و1.6 مليون برميل يومياً بحلول 2023، وصولاً إلى 2.1 مليون برميل يومياً في السنوات المقبلة.
ووضعت المؤسسة الوطنية للنفط ثلاثة سيناريوهات للإيرادات خلال العام الجاري: الأول يشير إلى قفزة في العائدات لتصل إلى نحو 39 مليار دولار مع معدل إنتاج يومي يتراوح بين 1.250 مليون برميل يومياً إلى 1.3 مليون برميل يومياً، في حالة توفير الأموال المطلوبة للصيانة وتطوير الحقول النفطية، بسعر 130 دولاراً للبرميل.
والسيناريو الثاني، الذي جاء في تقرير للمؤسسة اطلعت عليه "العربي الجديد"، توقع إيرادات نفطية بقيمة 35 مليار دولار في حالة استمرار الإنتاج من دون توفير الأموال المطلوبة ومع احتساب سعر البرميل في حدود 100 دولار للبرميل، بمعدل إنتاج يومي يتراوح بين مليون و1.150 مليون برميل يومياً.
أما السيناريو الثالث، فيتوقع أن تتراوح الإيرادات بين 25 مليار دولار و30 ملياراً في حالة وجود إغلاقات للموانئ والحقول النفطية في ظل إنتاج أقل من مليون برميل يومياً.
وكان محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير قد قال، أخيراً، إن ليبيا تحتاج إلى إنتاج 1.7 مليون برميل يومياً لتحقيق الاستدامة المالية للدولة. ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن ليبيا تحتاج لأن يبلغ سعر برميل النفط 70.3 دولاراً لتحقيق التوازن المالي هذا العام.
وأدى الصراع الذي احتدم أكثر من عقد بين الحكومات المتنافسة في ليبيا إلى وجود مؤسسات موازية تتنافس على السيطرة.
أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا
ولم تتمكن ليبيا، في السنوات الأخيرة، من تطوير صناعتها النفطية كثيراً بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم رغبة اللاعبين الدوليين في الاستثمار، على الرغم من الإمكانات الكبيرة للبلاد باعتبارها موطنا لأكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في أفريقيا. وتمتلك ليبيا أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام في أفريقيا، حيث تبلغ 48.4 مليار برميل.
وتشير تقارير رقابية إلى أن خسائر الإنتاج والبنى التحتية للنفط والفرص الضائعة على الدولة بسبب الإغلاقات المتكررة للحقول وموانئ التصدير ناهزت 231 مليار دولار خلال السنوات التسع الماضية.