هل هناك بصيص أمل في تجاوز الغلاء الفاحش والأزمات المعيشية العنيفة التي يعيشها المواطنون في معظم الدول العربية هذه الأيام؟
وهل يمكن أن تتوقف موجة الغلاء الجامح وتهاوي العملات وانهيار الطبقة الوسطى، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وتفاقم العجز المالي للدولة، وبالتالي يلتقط المواطن أنفاسه ولو لبعض الوقت؟
وهل يمكن للمواطن أن يتمتع ولو لأيام قليلة بثمار "التنمية والإصلاحات الاقتصادية ورغد العيش" التي تعد بها حكومات المنطقة من وقت لآخر؟
وهل من المرجح أن تتفادى بعض الدول العربية حالة التعثر المالي وربما الإفلاس والوصول لكارثة التوقف عن سداد أعباء الديون الخارجية؟
طالما لا تتوافر ممارسة ديمقراطية حقيقية وأنظمة وبرلمانات منتخبة داخل هذه الدول فإن الوضع سيظل كما هو عليه من البؤس الاقتصادي
هذه الأسئلة وغيرها طرحتها عليّ إذاعة مونت كارلو الدولية صباح أمس الاثنين في لقاء مفتوح بمشاركة خبراء ومحللين من تونس والأردن ومواطنين من دول عربية عدة.
ورغم ميلي عادة إلى الإجابات التي يغلب عليها طابع التفاؤل في الغد وعدم تحبيذ سياسة زرع اليأس في قلوب الناس، فإنّ ردودي هذه المرة على المذيع كانت متشائمة، حين أكدت أنه طالما لا تتوافر ممارسة ديمقراطية حقيقية وأنظمة وبرلمانات منتخبة بشكل حقيقي داخل هذه الدول فإن الوضع سيظل كما هو عليه من البؤس الاقتصادي، بل وقد يسوء بشكل سريع.
وأنّ بداية أيّ اصلاح اقتصادي ومالي تبدأ من صندوق الانتخاب وتوفير حرية الرأي والتعبير وإطلاق الحريات العامة واحترام الدستور.
وأنّ المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار يمكن أن تساعد أي مسؤول في احتواء أي أزمة حتى لو كانت معقدة، وأن الشعب يمكن أن يتحمل التقشف والقرارات الصعبة في حالة واحدة وهي أن يستمتع بثروات بلاده حتى لو كانت ضعيفة الموارد.
ويرى المواطن الحكومة تقدم له خدمات تعليمية وصحية مقبولة وبسعر مناسب، وتوفر له فرص عمل ورعاية اجتماعية وراتبا أفضل ومشروعات وخدمات مرتبطة بحياته اليومية.
لا مشروعات يتم إقامتها لأغراض دعائية وسياسية، أو لا علاقة لها بالمواطن من قريب أو بعيد، وأنّ الحكومة تبدأ بنفسها في التقشف وترشيد النفقات ومواجهة الفساد ومراعاة حرمة المال العام. وقبلها يجب أن تتوقف الحكومة عن تجفيف جيب المواطن، ومكافحة الاحتكارات داخل الأسواق.
رسمتُ سيناريوهات للمستقبل، أخطرها هو دخول بعض دول المنطقة حالة التعثر، وتكرار النموذج اللبناني، مع الارتهان للخارج
ورسمتُ عدة سيناريوهات للمستقبل، أولها وأخطرها هو دخول بعض دول المنطقة حالة التعثر، وبالتالي تكرار النموذج اللبناني، مع الارتهان للخارج.
وهذه الحالة يمكن أن تحدث في حال استمرار الحكومات في تطبيق سياسة التوسع المفرط في الاقتراض الخارجي، بل والمبالغة وربما التهور في الاقتراض، والاعتماد على الممولين الدوليين سواء لتغطية عجز الموازنة العامة، أو سداد عجز الموازنة العامة، وردم الفجوة التمويلية والرواتب والأجور، أو تمويل مشروعات بنية تحتية ضخمة.
كما أن شح النقد الأجنبي، وتراجع الإيرادات الدولارية من أنشطة رئيسية، مع ضخامة الالتزامات الخارجية المستحقة على الدولة، وزيادة كلفة الاقتراض، وتنامي عجز الميزان التجاري، قد يدفع بسرعة نحو الوقوع في هاوية التعثر.
أما السيناريو الثاني فهو دخول الدولة في دوامة طويلة من عدم الاستقرار المالي والاقتصادي، توسع مفرط في الاقتراض الخارجي، يعقبه زيادة الرسوم والضرائب والأسعار وتكاليف المعيشة، وتوجيه إيرادات الدولة لسداد أعباء أقساط الديون الخارجية والداخلية.
يصاحب ذلك تراجع في الإنفاق على القطاعات اللصيقة بالمواطن مثل الصحة والتعليم، وزيادة أسعار الوقود والسلع والخدمات مثل الكهرباء والمياه والغاز والمواصلات العامة والاتصالات وغيرها، وخفض الدعم الحكومي وتجميد الرواتب والأجور.
مع حلول أقساط ديون، تبدأ الدولة في مرحلة جديدة من تعويم عملتها وتضخم جامح وقفزات الأسعار، تعقبها زيادات في الأعباء الملقاة على المواطن
ومع حلول أقساط ديون جديدة، تبدأ الدولة في مرحلة جديدة من تعويم عملتها المحلية وتضخم جامح وقفزات الأسعار، تعقبها زيادات في الأعباء الملقاة على المواطن وتفريغ جيبه من أي سيولة نقدية.
ومع استمرار تلقي الدولة المزيد من القروض والمساعدات الإقليمية والدولية، وتوسع الحكومة في سياسة بيع أصول الدولة من بنوك وشركات وأراض وعقارات، والضغط على الأسواق، يمكن أن نرجح السيناريو الثالث وهو بقاء الوضع على ما هو عليه، مع تحول المواطن إلى رجل مريض داخل غرفة عناية مركزة، لا هو ميت، ولا يتمتع بصحة جيدة.