ما حدث في الأرجنتين منتصف الأسبوع الماضي من قرارات صادمة وكارثية بحق المواطن يعد نتيجة حتمية وطبيعية لسياسة "إدمان" أي دولة للديون الخارجية، والاتكاء على الخارج في تدبير النقد الأجنبي الذي يوجه لتسيير شؤون الدولة وسد عجز الموازنة العامة ودفع الرواتب والدفاع عن العملة المحلية.
وهو الجرم الذي ارتكبته الحكومات والأنظمة السابقة في العاصمة بوينس آيرس، وأدى في النهاية إلى قذف البلاد في أتون الفقر والتضخم والبطالة والمجهول والغموض وحالة اللايقين والتبعية للدائنين، ورهن القرار السياسي والاقتصادي للخارج رغم أن الدولة الواقعة في قارة أميركا اللاتينية زراعية بامتياز ومُصدر رئيسي للحبوب.
وكان من المتوقع أن تصبح واحدة من الدول الصناعية الكبرى، إلا أنها ضاعت وسط تلال الديون الخارجية التي تجاوزت 100 مليار دولار، وتضخم تجاوز 143%، وعملة محلية هي البيزو تتهاوى يوماً بعد يوم، وفساد مستشرٍ، وفقر أصاب 40% من السكان.
قبل أيام خرج علينا المرشح الرئاسي، خافيير مايلي، ببرنامج انتخابي داعب أحلام المواطنين الذين انتخبوه بالفعل رئيسا للدولة: وعود بالقضاء على موجة الغلاء الحادة خلال فترة قصيرة، والتغلب على الأزمة المالية الخانقة، وتحقيق التوازن والانضباط المالي في ميزانية العام المقبل 2024، وخفض الإنفاق الحكومي بنحو 40% من أجل تجنب التضخم المفرط.
كما قدم وعودا قاطعة بإغلاق البنك المركزي الأرجنتيني، بل وتفجيره بالديناميت لأنه أساس المشاكل حسب قوله، وإلغاء التعامل بعملة البيزو المحلية واستبدالها بالدولار، ولم ينس مايلي مهاجمة الدائنين والحكومات السابقة بشدة التي ورطت البلاد ي مستنقع الديون.
لكن ما حدث عقب فوزه في الانتخابات يؤكد أن الوعود شيء والواقع شيء آخر، فقد تراجع مايلي عن فكرة إغلاق البنك المركزي الأرجنتيني، وقال: "لم يقل أحد إن القضاء على البنك سيكون فورياً".
ويوم الأربعاء الماضي، اتخذ الرئيس المنتخب قرارات دراماتيكية وصادمة للرأي العام لعل وعسى تخرج البلاد من أسوأ أزمة مالية مرت بها.
من بين القرارات التي اتخذها بعد يومين فقط من تنصيبه، خفض قيمة العملة بأكثر من 50% مرة واحدة استجابة لطلبات وضغوط صندوق النقد الدولي المكررة، وتقليص الدعم الحكومي للوقود والنقل مع رفع الأسعار، وخفض عدد الوزارات من 18 إلى 9، وإلغاء وزارات مثل الأشغال العامة والتعليم والثقافة والعمل والتنمية.
خطوات لقيت استحساناً كبيراً من المستثمرين الدوليين وأصحاب الأموال الساخنة، وإشادة قوية من صندوق النقد الدولي الذي تهمه استعادة أمواله من بلد متعثر حتى ولو على جثث الملايين.
لكنها بالطبع لن تلقى إشادة المواطن الذي تحول إلى فأر تجارب لإصلاحات اقتصادية قاسية، ووعود لم تضع نهاية لتضخم قد يصل إلى 15 ألفاً بالمائة سنوياً في حال عدم كبح جماحه بشهادة مايلي نفسه.