أدرك رجب طيب أردوغان مبكراً أن تركيا يجب أن تطبق نموذجاً اقتصادياً غير تقليدي يختلف عن النماذج المطبقة في دول العالم، خاصة الرأسمالية.
نموذج يدعم الأهداف التي عملت حكوماته المتلاحقة على تحقيقها، وفي مقدمتها زيادة معدل النمو الاقتصادي بما يخدم المواطن، وتوفير فرص عمل، وخفض تكلفة الأموال والائتمان المقدم من البنوك لتحفيز الاقتصاد، وإحداث قفزة في إيرادات النقد الأجنبي من قطاعات حيوية، مثل الصادرات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والسياحة، والعقارات.
إضافة إلى عدم الوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي، بعدما سددت البلاد كل مستحقاته، وأصبحت تركيا في عام 2015 ولأول مرة بلا ديون للصندوق منذ 52 عاماً، بعدما كانت مدينة له بأكثر من 16 مليار دولار عام 2002، أي قبل تولي حزب العدالة والتنمية الحكم.
وانطلاقاً من هذا النموذج، ابتعد أردوغان خلال السنوات الأخيرة عن سياسة الاقتصاد التقليدي في معالجة الأزمات المالية وإدارة الأنشطة المختلفة، بما فيها الدين العام، والميزانية، ومناخ الاستثمار، وطبق نموذجا جريئا يخالف الأعراف الاقتصادية المطبقة في معظم دول العالم.
في الوقت الذي كانت فيه الحكومات الغربية تسحب السيولة من الأسواق لمكافحة التضخم، كان أردوغان يشجع حكومته والبنوك على ضخ السيولة
ففي الوقت الذي كانت فيه البنوك المركزية الكبرى تطبق سياسة التشدد النقدي وترفع سعر الفائدة على عملاتها لمعدلات غير مسبوقة، وفي مقدمتها البنك الفيدرالي الأميركي الذي رفع سعر الفائدة 9 مرات منذ شهر مارس 2022، كان البنك المركزي التركي يخفض سعر الفائدة على الليرة، أو على الأقل يثبتها.
وكان أردوغان يعلن أكثر من مرة أنه عدو الفائدة المرتفعة، ويصفها بأنها "أداة استغلال تجعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أشد فقراً، وأنه يجب ألا يدفعنا أحد للوقوع في هذا الفخ، ولن ننخدع بهذا المخطط".
وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومات الغربية تسحب السيولة النقدية من الأسواق بهدف مكافحة التضخم وموجة غلاء الأسعار، كان أردوغان يشجع حكومته والقطاع المصرفي على ضخ السيولة في الأسواق، وتوفيرها للقطاع الخاص والمستثمرين بتكلفة مقبولة، حتى يتمكنوا من توسيع أنشطتهم الاستثمارية والإنتاجية، وإقامة مزيد من المصانع، وفتح الشركات، والتوسع في الزراعة، وإنتاج المحاصيل والسلع الغذائية، واقتحام قطاع الطاقة الحيوي بالنسبة لتركيا مع ضخامة فاتورة وارداته.
وفي الوقت الذي كانت فيه دول كثيرة تركز على تنشيط القطاعات الخدمية، ومنها العقارات والتجارة، كانت تركيا تركز أكثر على القطاع الصناعي بما فيه الصناعات الدفاعية والصناعات التحويلية والكيميائية والسيارات والأثاث، كما ركزت على قطاع البنية التحتية الحيوي خاصة من جهة تأسيس أكبر مطار في أوروبا وإقامة موانئ وأنفاق وشبكات سكك حديد ومترو وشق قناة إسطنبول العملاقة وغيرها.
وفي الوقت الذي كانت بعض الدول قلقة من تهاوي عملاتها الوطنية، سمحت الحكومة التركية بخفض سعر الليرة بشكل كبير، مع الاستفادة من الخفض في إحداث قفزة في قيمة الصادرات التي زادت حصيلتها إلى 254 مليار دولار في عام 2022، كما سجلت الصادرات زيادة ملحوظة في 2021، رغم التحديات التي واجهت البلاد، بسبب فيروس كورونا، وأزمة سلاسل الإمدادات حول العالم.
تكررت حملات تشكيك المعارضة، عقب إعلان تركيا عن إنتاج أول سيارة كهربائية، وغيرها من الصناعات الدفاعية التي باتت تشكل بنداً مهماً في الصادرات
وفي الوقت الذي كان العالم يتجاهل معدل النمو لصالح هدف أهم من وجهة نظرها وهو مكافحة التضخم والغلاء، كانت تركيا تستهدف المؤشر الأول لأهميته القصوى للاقتصاد، خاصة وأن زيادة معدل النمو تساهم في تحقيق أهداف اقتصادية كبيرة منها زيادة الصادرات، والحد من الواردات، وتوفير فرص عمل للشباب، والحد من استنزاف النقد الأجنبي.
وفي الوقت الذي سخرت فيه المعارضة من إعلان أردوغان أكثر من مرة عن تحقيق اكتشافات بترولية خاصة في البحرين الأسود والمتوسط، وشككت في تصريحاته ووصفتها بأنها دعائية، كانت تركيا تشهد تدفقاً من حقول الغاز لمنازلها، بل ومُنح الغاز للمواطنين بالمجان ولمدة شهر.
كما أنتجت تركيا 67 ألف برميل يومياً من النفط الخام والمكثفات والسوائل الغازية خلال العام الماضي، وبلغت احتياطيات تركيا من النفط 371 مليون برميل بنهاية 2022، وسجّلت احتياطيات الغاز الطبيعي 111 مليار قدم مكعبة (3.1 تريليونات متر مكعب).
وتكررت حملات التشكيك تلك، عقب إعلان تركيا عن إنتاج أول سيارة كهربائية، وغيرها من الصناعات الدفاعية التي باتت تشكل بنداً مهماً في الصادرات الخارجية.
ببساطة طبق أردوغان نموذجاً اقتصادياً جريئاً وغير تقليدي، هاجمته بشدة المؤسسات الغربية، وبنوك وصناديق الاستثمار الدولية، وتجار الأموال، وأصحاب الأموال الساخنة الذين يسعون لاغتراف مليارات الدولارات من الأسواق الناشئة دون بذل أي مجهود أو إضافة فرصة عمل واحدة.
رفعت السياسات الاقتصادية المطبقة في السنوات الأخيرة معاناة المواطن، بسبب غلاء الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، وتهاوي العملة، وزيادة كلفة المعيشة
صحيح أن هذه السياسة زاد الهجوم عليها خلال الشهور الأخيرة مع موجة رفع أسعار الفائدة عالميا، لكنها في المقابل حمت تركيا من الوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين، حيث وفرت للدولة ما يزيد عن 300 مليار دولار سيولة دولارية، كما قلصت البطالة، ووفرت النقد الأجنبي الكافي لسداد أعباء الديون الخارجية وكلفة الواردات.
لكن، في المقابل، رفعت السياسات الاقتصادية المطبقة معاناة المواطن، بسبب غلاء الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، وتهاوي العملة، وزيادة كلفة المعيشة، وهو ما يبرر دخول أردوغان في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، حيث كانت أزمة الغلاء حاضرة وبقوة في الجولة الأولى.
السؤال هنا: إلى أي النموذجين ينحاز الأتراك حينما يتوجهون يوم 28 مايو الجاري للمشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، الاقتصاد التقليدي الذي تبنّاه مرشح المعارضة كمال كلجدار أوغلو ويقوم على فكرة تطبيق المعايير الغربية من سحب السيولة ورفع الفائدة في مواجهة التضخم، وهنا يكون المستفيد الأول أصحاب الثروات، أم النموذج غير التقليدي والجريء الذي يتبناه أردوغان ويقوم على خفض الفائدة لزيادة معدل النمو وتوفير فرص عمل، وهنا يستفيد المواطن والاقتصاد؟