تخضع إيران للعقوبات الأميركية شأنها شأن روسيا. ففي 8 مايو/ أيار 2018 أعلن الرئيس السابق دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتِّفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015، وتعثَّرت بعد ذلك جهود الرئيس الأميركي جو بايدن لإحياء ذلك الاتِّفاق نتيجة عدم إحراز تقدُّم كبير في مفاوضات فيينا.
لكن الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد خلط الأوراق في أوروبا، وطرح فكرة اللجوء إلى إيران والتعايش معها في مجال الطاقة، خصوصاً بعد أن أكَّد خبراء من وكالة الطاقة الدولية (IEA) أنّ إيران يمكن أن تكون مورداً بديلاً للنفط الروسي ومصدراً إضافياً مهماً لإمدادات الغاز وممرّ عبورٍ إلى الأسواق العالمية في حال تمَّ رفع العقوبات عنها.
وتوقَّع خبراء الوكالة أيضا أن يرتفع إنتاج إيران من النفط إلى 1.2 مليون برميل يومياً في غضون ستة أشهر للوصول إلى طاقته الكاملة البالغة 3.8 ملايين برميل يومياً، علاوة على مخزون عائمٍ في البحار جاهزٍ للبيع في وقت قصير يبلغ 80 مليون برميل، حسب تقديرات، ويتطلَّب فقط إعطاء الضوء الأخضر للناقلات الإيرانية.
تثير الحرب الروسية الأوكرانية الكثير من المخاوف في أوروبا بشأن اضطراب إمدادات الغاز الطبيعي أكثر من النفط الخام بسبب تداعيات ذلك على الأسر والشركات، مثل صانعي الأسمدة ومنتجي المعادن، الذين يستخدمون الكثير من الطاقة.
أتاح الغزو الروسي لأوكرانيا الفرصة لطهران لمقايضة الغاز وتقديم نفسها كشريك اقتصادي لأوروبا المُطالَبة الآن برسم مسار جديد في علاقتها مع طهران
وها هي أعين أوروبا تنظر مجدَّداً لإيران التي تمَّ تهميشها ونبذها واستبعادها بالكامل من مشاريع نقل الطاقة الإقليمية الكبرى مثل ممرّ النقل بين أوروبا والقوقاز الذي أُطلِق أثناء مؤتمر بروكسل سنة 1993، ومشاريع أخرى تمتدّ عبر بحر قزوين والبحر الأسود.
وكان مُتوقَّعاً أن تبدي أوروبا اهتماماً متزايداً بإيران التي تزخر باحتياطات هائلة من النفط والغاز وتعتبر بفضل جغرافيتها جسراً برِّيّاً يربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
لقد أتاح الغزو الروسي لأوكرانيا الفرصة لطهران لمقايضة الغاز وتقديم نفسها كشريك اقتصادي لأوروبا المُطالَبة الآن برسم مسار جديد في علاقتها مع طهران.
وكل ما تحتاجه الآن إيران لإرواء العطش الأوروبي للنفط والغاز هو تحرُّك الاتِّحاد الأوروبي لإقناع إدارة بايدن برفع العقوبات عنها، وكذا حشد تمويل جيِّد لصيانة وتجديد وتوسيع بنيتها التحتية النفطية.
فبحسب تصريحات محسن خوجاشمهر، العضو المنتدب لشركة النفط الوطنية الإيرانية المملوكة للدولة، تحتاج إيران إلى استثمارات بقيمة 160 مليار دولار، بواقع 90 مليار دولار للنفط و70 مليار دولار للغاز، لرفع طاقتها الإنتاجية بشكل تدريجي خلال العقد القادم.
فهناك قائمة طويلة من الحقول التي يمكن تطويرها وتوسيعها كحقول كارون الغربية بالقرب من الحدود العراقية بما في ذلك حقول يادافاران ويادآوران وآزادجان الشمالي وداركوين وجوفيير، وحقول أخرى في محافظة خوزستان وحقل بارس الجنوبي وحقل تشالوس في بحر قزوين.
تحاول إيران كسب معركة الغاز البديل للتخلُّص من قيود العقوبات التي تعيقها عن الوصول إلى أصولها الأجنبية المجمَّدة في الخارج وتحرم بنوكها من الانضمام إلى نظام تحويل الأموال "SWIFT".
لكن الواقع شيء آخر، فلكي تتمكَّن إيران من سدّ الفجوة التي فتحتها عزلة روسيا الجديدة عن أسواق الطاقة، لا بدّ لها من بناء صناعة للغاز الطبيعي المسال أكبر من تلك التي توجد في قطر في فترة قصيرة.
وهذا غير ممكن حتى في بيئة الاستثمار الأكثر جاذبية نظراً للتكاليف الباهظة المحتملة لهذه العملية المعقَّدة، وهذا ما يردع أوروبا عن فرض عقوبات كاملة على صادرات الغاز الروسي، فهي تدرك أيضاً أنّ حوالي 80 بالمائة من الغاز الطبيعي الذي تنتجه إيران يُستهلك محلياً، حيث يرتفع استهلاك الطاقة بسبب الإعانات الحكومية للمستهلكين التي تبلغ قيمتها 45 مليار دولار سنوياً والتي تضع أسعار البنزين والكهرباء وأنواع الوقود الأخرى عند مستويات منخفضة، كما تعي أوروبا تماماً المشوار الطويل من الدعم والاستثمار ونقل التكنولوجيا حتى يصبح بمقدور الإمدادات الإيرانية أن تحلّ محلّ الإمدادات الروسية.
تحاول إيران كسب معركة الغاز البديل للتخلُّص من قيود العقوبات التي تعيقها عن الوصول إلى أصولها المجمَّدة في الخارج وتحرم بنوكها من الانضمام إلى نظام SWIFT
يعلم الغرب أيضاً أنّه حتى لو تمكَّنت إيران من التغلُّب على مشاكل البنية التحتية للطاقة، فمن غير المرجَّح أن تتحدَّى روسيا في التحوُّل إلى مُصدِّر رئيسي للغاز المصدر لأوروبا، حيث تطمح إيران لاستعادة حصّتها المفقودة في السوق العالمية وإيجاد موطئ قدم لها في السوق الآسيوية بغية التغلُّب على ركودها الاقتصادي وعزلتها الجيوسياسية دون إغضاب روسيا، ومن جهتها لن تسمح روسيا لإيران بدخول أسواق الغاز الأوروبية بسهولة وستستخدم كل أداة تحت تصرُّفها لمنع أوروبا من التخلُّص من اعتمادها على الغاز الروسي.
لطالما كان أيّ تحسُّن في علاقة إيران بالغرب مصدر قلقٍ لروسيا التي لا تريد أن تصبح إيران دولة نووية ولا أن تخضع للعقوبات، حيث تخشى روسيا من أن يؤدِّي التوسُّع الإضافي للبرنامج النووي الإيراني إلى صراع جديد في المنطقة ووجود عسكري أميركي أكبر.
كما أنّه من مصلحة روسيا رفع العقوبات عن إيران وحصولها على العضوية في الاتِّحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)؛ سياسة روسيا ببساطة هي الإبقاء على الأزمات التي يمكن السيطرة عليها وعرقلة تحسين العلاقات المتأزِّمة تاريخياً بين إيران والغرب.
تنظر روسيا إلى سياستها تجاه إيران على أنّها صفقة، فهي تدعم طهران بشرط تلقِّي تنازلات، على سبيل المثال، ربطت روسيا دعمها في محادثات فيينا بمصادقة إيران على اتفاقية النظام القانوني لبحر قزوين الموقَّعة في أغسطس/آب 2018.
فقد تمسَّكت إيران سابقاً بحصّتها في بحر قزوين المُقدَّرة بـ 50 بالمائة، لكنها وافقت بعد ذلك على حصّة 20 بالمائة التي تقلَّصت إلى 13 بالمائة، ثمّ إلى 11 بالمائة لصالح روسيا وفقاً لاتهامات العديد من النشطاء السياسيين الإيرانيين.
تمسَّكت إيران سابقاً بحصّتها في بحر قزوين المُقدَّرة بـ 50%، لكنها وافقت بعد ذلك على حصّة 20% التي تقلَّصت إلى 13%، ثمّ إلى 11% لصالح روسيا وفق نشطاء إيرانيين
جدير بالذكر أنّ روسيا تخلَّت عن جهودها الرامية إلى التخريب على محادثات فيينا بعد أن زار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان موسكو في 15 مارس/ آذار 2022، لكن يبدو أنّ إيران قد منحت تنازلاتٍ لقاء ذلك.
خلاصة القول إن خطّة العمل الشاملة المشتركة، إذا تمَّ إحياؤها، ستفكّ عقداً وتعقد أخرى، ولا يزال بإمكان الراديكاليين في إيران والمعارضين في تل أبيب وواشنطن والخليج العربي عرقلة الدبلوماسية، ومن غير المرجَّح من ناحية أخرى أن تتراجع إيران عن سياسة النظر شرقاً نظراً لعدم ثقتها الراسخة في الولايات المتحدة وأوروبا.