تجاوز الصعاب، هو الإنجاز المهم في اتفاقية منطقة التجارة الحرة الجديدة بين تركيا وبريطانيا، فمنذ شهور كانت تحليلات تذهب لصعوبة توقيع مثل هذه الاتفاقية، لاعتبارات تجارية وسياسية، حيث إن بريطانيا ترتب أوراقها النهائية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، بينما تركيا تربطها اتفاقية اتحاد جمركي بالاتحاد الأوروبي، وبالتالي لا بد من المحافظة عليه، وإلا ستنهار مصالحها مع الاتحاد، شريكها التجاري والاقتصادي الأول. وأتى توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين أنقرة ولندن يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2020، لينهي إرهاصات الفشل، والعقبات التي كان يتوقعها خبراء سياسة وتجارة.
إبرام الاتفاقية خطوة مهمة للبلدين، في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية بشكل عام، ولكلا البلدين بشكل خاص، سواء في ما يتعلق بتداعيات جائحة كورونا، أو في ظل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك التحديات المتعددة التي تواجهها تركيا في محيطها الإقليمي.
ومهدت لتوقيع الاتفاقية حالة التلاقي السياسي بين كل من أنقرة ولندن خلال الفترة الماضية، حيث كانت بريطانيا دومًا تدافع عن موقف تركيا في خلافاتها في الاتحاد الأوروبي، كما استنكرت مبكرًا الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا عام 2016، ولا تتفق بريطانيا دائما مع العديد من الدول الأوروبية حول موقفها من ممارسات حكومة العدالة والتنمية، في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما أن التوقيع يعني أن الطرفين استطاعا أن يتجاوزا الخلافات السياسية التي كانت تقف عقبة أمام هذه الاتفاقية، بسبب الخلاف التركي مع كل من الاتحاد الأوروبي وأميركا، نظرًا لشراء تركيا المنظومة الدفاعية الروسية، وكذلك سياستها تجاه منطقة شرق المتوسط تجاه اليونان، وإصرار أنقرة على أن تحافظ على حقوقها في حقول الغاز هناك.
لكن مما يُسهل أن تؤتي هذه الاتفاقية ثمارها بشكل كبير، في الأجل القصير، أن الطرفين، كانا يتعاملان على الصعيد التجاري والصناعي، وفق شروط الاتحاد الأوروبي، وكان بينهما تعاملات تجارية واستثمارية جيدة، وبالتالي سيتم تفعيل الاتفاقية في أقرب وقت، وهو ما أكدته وزيرة التجارة التركية، روهصار بكجان، التي أعلنت قبل أيام أن الاتفاقية ستكون جاهزة في مطلع عام 2021.
الفوارق بين الطرفين في المؤشرات الاقتصادية الكلية لصالح بريطانيا، فإذا نظرنا مثلًا للناتج المحلي الإجمالي نجد أن ناتج بريطانيا بحدود 2.8 تريليون دولار، بينما تركيا بحدود 761 مليار دولار، حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي لعام 2019، وتصل التجارة السلعية الإجمالية لبريطانيا إلى 1.16 تريليون دولار، بينما تركيا في حدود 390 مليار دولار فقط. ويُعد مؤشر السكان هو الذي يميز تركيا، حيث يصل عدد سكانها إلى 83.4 مليون نسمة، بينما بريطانيا 66.8 مليون نسمة.
ماهية منطقة التجارة
منطقة التجارة الحرة بين بلدين، وفق الإقليمية الجديدة، ليست نطاقًا جغرافيًا مشتركًا، كما يتخيل البعض، ولكن تعني إزالة العوائق الجمركية أمام سلع البلدين، ووصول البلدين إلى اتفاق لإعفاء منتجات كل منهما من الضرائب الجمركية، خلال مدة معينة، حتى تصل إلى صفر، أو قد تصل إلى صفر دون الحاجة لمرحلة انتقالية. والاتفاق الذي وقع بين تركيا وبريطانيا يشمل السلع الصناعية والزراعية، ويعد هذا الاتفاق تنافسيًا بشكل كبير، نظرًا لأن كلا البلدين لديه قدرات متميزة في قطاعي الصناعة والزراعة، وبالتالي ستكون المنافسة على أشدها لاستفادة كل من الاقتصادين من أسواق الآخر.
العلاقات الاقتصادية
فور توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وبريطانيا، انتشرت أرقام حول قيمة التجارة السلعية بين البلدين، وأنها تدور حول 25 مليار دولار عام 2019، بينما معهد الإحصاء التركي، يظهر أن حجم التبادل التجاري بحدود 16.2 مليار دولار، منها 10.8 مليارات دولار صادرات سلعية تركية لبريطانيا، ونحو 5.4 مليارات دولار، واردات سلعية لتركيا من بريطانيا.. وبذلك يكون الميزان التجاري لصالح تركيا بتحقيق فائض تجاري بنحو 5 مليارات دولار.
وتتمثل الصادرات التركية لبريطانيا في الذهب، المنسوجات والملابس الجاهزة، الآلات الكهربائية، السيارات، قطع الغيارـ منتجات الحديد والصلب، الأسلاك والكابلات، بينما ورادات تركيا من بريطانيا تتمثل في محركات الديزل، السيارات، الحديد، المنتجات الطبية والصيدلانية.
ويلاحظ أن الصادرات التركية، وإن كانت تزيد عن وارداتها من بريطانيا من حيث القيمة، إلا أن الصادرات السلعية التركية لبريطانيا تتسم بأنه تغلب عليها السلع التقليدية، والتي تحقق قيمة مضافة ضعيفة، بينما الصادرات البريطانية تتسم بالقيمة المضافة العالية من خلال محركات الديزل، والمنتجات الدوائية والصيدلانية. أما على صعيد الاستثمار، فحسب بيانات وزارة الخارجية التركية، إن الاستثمارات البريطانية في تركيا خلال الفترة من 2002 – 2017، بلغت نحو 9.8 مليارات دولار، بينما استثمارات تركيا في بريطانيا بلغت 2.3 مليار دولار.
دلالات الاتفاق
السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، وإن كان الاتفاق له طابع اقتصادي بشكل أكبر، إلا أن جوانبه السياسية لا تخفى على أحد.. ففي الوقت الذي يحاول البعض حشد الدول الأوروبية ضد تركيا بسبب سياستها في ليبيا ومنطقة شرق المتوسط، نجد أن تركيا نجحت في إيجاد مصالح مشتركة، مع بريطانيا صاحبة المكانة البارزة في القارة الأوروبية.
كما أن قبول تركيا الدخول في منطقة تجارة حرة مع دولة ذات اقتصاد كبير مثل بريطانيا، يعكس استعداد تركيا لخوض منافسة شرسة مع اقتصاد يملك ناتجًا محليًا يصل إلى نحو ثلاثة أضعاف اقتصادها، ويعكس تحديا كذلك أمام تركيا، لرفع كفاءة قطاعها الصناعي والزراعي للمنافسة على السوق البريطاني.
ولن تكون بريطانيا في موقف المتفرج في هذه الاتفاقية، فهي تنظر إلى السوق التركي باعتباره واحدًا من أكبر الأسواق في منطقة الشرق الأوسط، نظرًا لكبر عدد السكان، الذي يزيد عن 83 مليون نسمة.
كما يعطي دلالة لقدرة بريطانيا على استعادة الأسواق التي كانت توفرها لها عضويتها بالاتحاد الأوروبي، وهي بذلك تبرهن على أنها يمكنها تجاوز العقبات التي يتصورها البعض، نتيجة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من خلال العمل وفق نفس الأدوات؛ التجارة الحرة، والانفتاح على الأسواق والاقتصاديات الخارجية.
وقد تسمح الاتفاقية بزيادة الاستثمارات البريطانية في تركيا خلال الفترة المقبلة، حيث ستتمتع هذه الاستثمارات بمزايا منطقة التجارة الحرة، وتكون السلع التي توفرها هذه الاستثمارات ذات منشأ تركي، وبالتالي تتمتع بالدخول للسوق البريطاني في ظل إعفاء جمركي.
وبلا شك أن هناك مزايا أخرى لتواجد الاستثمارات البريطانية في السوق التركي، ومنها رخص اليد العاملة، مما يعطي السلع المنتجة في تركيا ميزة تنافسية، سواء في السوق البريطاني أو غيره من الأسواق التي تستهدفها هذه الاستثمارات.
وبشكل عام، مثل خبر الإعلان عن توقيع اتفاق منطقة التجارة الحرة بين تركيا وبريطانيا، حالة من التفاؤل لدى رجال الأعمال الأتراك، بعد موجات تحديات كورونا، ومؤشرات اقتصادية سلبية في مجالات التضخم والبطالة وتراجع قيمة العملة الوطنية. لكن مع توقيع الاتفاق، والإعلان عنه، انعكس ذلك إيجابيًا على سعر الليرة التركية، وكذلك البورصات، كما أنه سيجعل رجال الأعمال الأتراك يعيدون حساباتهم ويرتبون أجندتهم للدخول بشكل أكبر للسوق البريطاني.
كما يصب الاتفاق إيجابيًا لصالح حكومة العدالة والتنمية التي تتولى السلطة بتركيا، كونها قادرة على أن تعوض بعض الممارسات السلبية تجاه صادراتها من دول إقليمية وعربية.